الأب بشير معربس الكرملي
"...الكرمل هو غنى للحياة المسيحيّة. في صمته يستمرّ تفتّح أزهار معطّرة بالقداسة وهي تعضد رسالة الكنيسة... الكرمل يذكّر الناس المنشغلين بأمور كثيرة، أنّ الأوّليّة المطلقة يجب أن تعطى لطلب ملكوت الله وبرّه..." هكذا وصف القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني الكرمل في الرسالة التي وجّهها للرئيس العام للرهبانيّة الكرمليّة في 7 ت1 2002 لمناسبة الذكرى المائة والخمسين لدخول الراهبات الكرمليّات المحصّنات في رهبانيّة الكرمل إلى جانب الرهبانيّة العلمانيّة الثالثة. في هذا المقال سنعرض المسيرة التي يتبعها كلّ راغب بالتعرّف إلى دعوته وتكريس حياته للرب في أرض الكرمل.
كلّ من يأتي ليقرع باب الكرمل بهدف البحث عن دعوته وتكريس حياته لله عليه أن يمرّ بعدّة مراحل:
مرحلة التمييز وقراءة الحياة:
هناك طريقتان يمكن إتّباعهما في هذه المرحلة وذلك بحسب هدف كلّ راغب:
الطريقة الأولى تعتمد مع الراغب بالإنضمام إلى الكرمل وهو متأكّد من رغبته وقراره:
يتوّجّه إلى دير سيّدة الكرمل في الحازميّة ويتعرّف إلى الأخ المسؤول عن الدعوات ليبدأ معه
مرحلة التمييز وقراءة الحياة. ماذا تتضمّن هذه المرحلة؟ يساعد الأخ المسؤول الراغب بقراءة
حياته على ضوء كلمة اللّه وحضوره وذلك على عدّة لقاءات أسبوعيّة فيها يتمّ قراءة كل مراحل حياته
من طفولة إلى مراهقة فشباب والتمييز ما بين النعم والطاقات التي وضعها الله فيه والحاجة
والمكان الذي يمكن أن يضع فيه هذه الطاقات في خدمة الكنيسة. في نهاية هذه المسيرة
التي تتطلّب عدّة
أسابيع يمكن للأخ المسؤول إذا وجد الراغب مؤهّلاً للحياة الكرمليّة أن يقبله في مرحلة إختبار تترواح بين ثلاثة إلى ستّة أشهر.
أمّا الطريقة الثانية فهي تعتمد مع من يبحث عن دعوته وهو غير قادر بعد على إتّخاذ قرار واضح.
يشارك الراغب في رياضات تمييز الدعوة التي تقيمها لجنة الدعوات في الكرمل المؤلّفة من رهبان،
راهبات وعلمانيين في الرهبنة الثالثة. ماذا تتضمّن هذه المرحلة؟ كل شابّ وشابّة يبحثان عن
دعوتهم في الكنيسة وهم غير قادرين بعد على إتّخاذ قرار في حياتهم يمكنهم التوجّه إلى أحد
أديار الكرمل للرهبان والراهبات (الحازميّة، الفنار والمشرف) للقاء الأخ أو الأخت المسؤولة عن
مرافقة الدعوات وذلك من أجل الإستيضاح عن الهدف الذي يبحثون عنه وإذا كان يتلاءم مع هوية المجموعة
الخاصة لتمييز الدعوة. نلتقي على ستّة ويكندات في السنة في دير مار الياس للكرمليين في نهر إبراهيم
المعيصرة للتعرّف على الدعوة ومن أجل إختبار الحياة الجماعية، عيش أوقات صلاة، تنشئة ومرافقة روحيّة بغية أخذ قرار في نهاية السنة. أمّا التنشئة فهي على الشكل التالي:
مرحلة الإختبار:
إنّ مرحلة الإختبار هي أساسيّة في قرار الراغب. في هذه المرحلة يتعرّف المسؤول مع الجماعة إلى الراغب بشكل أعمق وجدّي وتتاح الفرصة أمام الراغب بأن يتعرّف بشكل واقعي إلى روحانيّة الكرمل وطريقة عيشها اليوم من أجل خيار سليم. في هذه المرحلة يعيش الراغب إختباره ما بين الجماعة والحياة المعتادة خارج الدير من أجل تمييز سليم وواضح. في نهاية هذه المرحلة إذا أراد الراغب المضيّ قدماً في القرار الذي أخذه ومن بعد موافقة المسؤول والجماعة وبإذن من الرئيس الإقليمي للرهبانيّة يُقبل في مرحلة الطالبيّة.
مرحلة الطالبيّة:
إن مدّة الطالبيّة لا تقلّ عن ستّة أشهر. في هذه المرحلة يعيش الراغب معظم وقته مع الجماعة ويشارك بالصلوات والفرص والحياة اليوميّة. يتعرّف في هذه المرحلة على روحانيّة الكرمل من خلال التعمّق بهويّتها وموهبتها والتعرّف على قدّيسيها ومن خلال عيش حياة التأمّل والعزلة إضافة إلى الحياة الجماعية البسيطة والغنيّة في آن واحد. في نهاية هذه المرحلة ومن بعد التصويت الإيجابي من قبل الجماعة وبموافقة الرئيس الإقليمي يُقبل الطالب في مرحلة الإبتداء.
مرحلة الإبتداء:
في مرحلة الإبتداء يعيش المبتدأ نمط الحياة الرهبانيّة الكرمليّة بشكل جذري ويتعمّق بقانون الكرمل وكتب قدّيسيه خاصة يوحنّا للصليب وتريزا ليسوع الأفيلية. تتميّز هذه المرحلة بالصلاة المستمرّة والإبتعاد عن ضوضاء العالم من أجل بناء خبرة عميقة مع الرب وللتعمّق بالقرار في تكريس النفس لخدمته. في بداية سنة الإبتداء يتّشح المبتدأ بالثوب الرهباني ويتفرّغ للصلاة والصمت والتأمّل بكلمة الله. في نهاية السنة ومن بعد موافقة الجماعة يعتنق الأخ المشورات الإنجيليّة من فقر وعفّة وطاعة اللواتي نذرهما بين يديّ الرئيس الإقليمي وأمام الكنيسة لمدّة سنة وتبدأ مرحلة جديدية من حياته وهي الدراسة الجامعيّة.
مرحلة الدراسة:
في هذه المرحلة يتفرّغ الأخ الناذر للتعمّق بالكتب المقدّسة والإنكباب على دراسة الفلسفىة واللاهوت لمدّة خمس سنوات يجدّد خلالها في نهاية كلّ سنة نذوره البسيطة إلى أن يطلب النذر المؤبّد الذي من خلاله يصبح الأخ فرداً من أفراد الأسرة الكرملية بحيث أنّه يلتزم بكل ما يطلبه قانون الحياة ويصبح له حقوق رهبانيّة وعليه واجبات عليه تأديتها. وأمّا التدرّج للحياة الكهنوتيّة فهو منوط بقرار الراهب وموافقة الجماعة.
بإختصار، أن أصبح كرمليّاً، هي مسيرة تبدأ بنداء من الرب وتكتمل بالنمو من خلال التمرّس بالفضائل والتعلّم. أن أصبح كرمليّاً يعني أن أصبح خادماً للكنيسة، أن أصبح رجل صلاة ورسالة، أخ للفقراء. أن أصبح كرمليّاً يعني أن أصبح غيوراً على بيت الله كالنبي إيليا ملهم الكرمل وأن أحيا وأموت كالقديّسة تريزا الأفيليّة إبناً للكنيسة.
إليك عزيزي القارئ بعض شهادات عن حياة الكرمل بأقلام أشخاص عاشوا في الكرمل ومشوا على درب القداسة ليدلّونا على الطريق. يقول خادم الله الأب جاك ليسوع الكرملي: ..." الكرمل، هو أن نعيش في عزلة مع الله، في علاقة حميمة معه؛ ثمّ الخروج من الدّير والذّهاب لحمله إلى النّفوس، وتعريفها به، وجعلها تحبّه، والعودة بعدها للغوص في العزلة، والتبلّل من الصّلاة والتّضرّع: هذا هو ما يجذبني!"... " الكرمل هو جماعة من النّاس تُظهر الله لغيرها من البشر. فنحن لا ننسحب من العالم إليه بداعي الكسل أو لإيجاد السّلام، أولعيش حياة برجوازيّة، أوحتّى للهرب من التّعب في سبيل الحصول على حياة مريحة، بل ننسحب لأنّنا متعطّشون لله، لأنّنا نرغب تماماً أن نجد الله، ونظهرالله للعالم كلّه... "كلّ يوم أحبّ الحياة الكرمليّة أكثر، وأتعمّق أكثر فأكثر بجمال وعظمة دعوتي. ولكن في الوقت نفسه، أكتشف كلّ يوم بؤسي أكثر، هذا البؤس الّذي يحول دون اكتشاف الّله فيّ لحياة الوحدة الّتي أرادها أن تستهلّ. (رسالة في 5 كانون الثّاني لرئيسة دير كرمل هافر)
أمّا الطوباويّة أليصابات للثالوث فتقول: الكرمليّة نفس مبذولة، ذبيحة لمجد الله، مع مسيحها هي مصلوبة، لكن جلجلتها، آه كم هي منوّرة! بنظرها إلى الذبيحة الإلهيّة انبثق نور في نفسها، وبفهمها رسالتها الفائقة، صرخ قلبها المجروح:" هاءنذا".الكرمليّة نفس عابدة مستسلمة كلّيّاً لعمل الله، وهي، عبر كلّ شيء، مشاركة كبيرة القلب فوق والسماء تملأ عينيها! وجدت الحاجة الوحيدة، الكيان الإلهي، النور والمحبّة، غامرة العالم بصلاتها، ها هي رسولة في الحقيقة. (قصيدة 83).
وأنهي هذا المقال بإستشهاد من رسالة للقديسة تريزا ليسوع دي لوس أندس لأختها ربيكا تتكلّم فيها عن دعوتها في 15 نيسان / ابريل سنة 1916: " بكلمات قليلة أريد أن أستودعك سرّ حياتي. قريباً سنصبح منفصلتين وهذه الرغبة الّتي رافقتنا منذ طفولتنا بأن نعيش دائمًا متّحدتين ستنكسر في وقت قريب وذلك لهدف أسمى منّا. علينا إتباع طرق مختلفة في الحياة. فالربّ قد همس لي "أتركي أباك وأمّك وكلّ ما لديك واتبعيني". من يستطيع أن يرذل يد الربّ القدير الذّي ينحني نحو أرذل المخلوقات ؟ لكم أنا سعيدة يا أختي الصغيرة ، حبيبتي ! لقد أُمسِك بي في شباك صياد الحب الإلهي. من غير الممكن أن أعبّر كم أنا أحبّه. أفكاري مشغولة دائماً به، هو مثالي الأعلى، مثالي اللانهائي. أتوق أكثر فأكثر يومًا بعد يوم بالذهاب الى الكرمل حيث أكون منشغلة ومدهوشة به وحده. أتوق أن أحبّ وأعاني من أجل خلاص النفوس. نعم، أنا متعطشة للنفوس لأنّي أعرف ماذا يحبّ يسوعي. أنا أحبّه وأودّ أن أموت لأجله. أحبّه كثيراً لدرجة أنني أريد أن أستشهد له . إنّي أحبّه .