كتابة الأب هياف فخري الكرمَلي
الجذور التاريخية للرهبانية الكرملية
العناصر الأساسية للحياة الرهبانية في القرن الثالث عشر
نشأت الحياة المكرسة في الكنيسة منذ القرون الأولى. والدافع الأساسي،
الذي حمل بعض المؤمنين الى إعتناق حياة التقشق والإبتعاد عن العالم،
كان تجسيد كلمة الإنجيل وإتباع يسوع المسيح في الحياة اليومية بالصوم والصلاة والتقشف والزهد بالحياة.
ثم بدأت هذه الحياة تتبلور في تنظيم الحياة النسكية ووضعها ضمن الأطر القانونية والروحية الصحيحة.
اقتصرت الحياة المكرسة، في القرون الأولى للكنيسة،
على المحيط المحلي للرعايا من خلال مجموعات من الرجال والنساء زهدوا بالدنيا ضمن حياتهم اليومية،
متبعين المسيح من خلال الصوم والصلاة والتقشف. منهم من كرّسوا حياتهم للأعمال الخيرية والرحمة،
ومنهم من اعتزل في مكان قفر متوحّدين بعيدا عن الناس،
فمنهم من عاش في جماعات تتقاسم فيما بينها الحياة الجماعية اليومية،
وغالباً ما كانوا يلتقون حول الأسقف ليشكّلوا معه حياة جماعية،
من دون إبراز أية نذور كنسية علنية سوى إتباع وصايا انجيل يسوع المسيح
. . 1
1- الرهبانيات الديرية
تبلورت فكرة الحياة الرهبانية القانونية ضمن الأطر الديرية في القرن التاسع عشر، وكان الغرض من
إنشائها عيش الكمال الإنجيلي ضمن جماعة واحدة داخل أروقة أديار محصّنة ، حسب قواعد وقوانين تتطلب الخضوع لشخص
الرئيس الذي يجمع فيما بينهما مشكلاً سلطة واحدة بإرادة واحدة. تنظمت الحياة النسكية مع نشأت الحياة الرهبانية الديرية
ضمن إطار القوانين التي أعطاه النساك كل منهم حسب الخبرة
التي عاشها ب والذين خطوا في حياتهم اهم فصولها وهم في الشرق: القديس باخوميوس،
القديس باسيليوس، أما في الغرب أعتمدت الحياة المكرسة على
قانون القديس مبارك كقاعدة أساسية
للحياة الرهبانية النسكية في اوروبا.
اشتهر هذا القانون بإسم “Ordo Sancti Benedicti” رهبانية القديس مبارك2 .
نظّم الإصلاح الغريغوري الحياة الجماعية للأكليروس، في عهد البابا "Urbano II"،
في ظل قانون دعي بقانون القديس أغسطينس. فجمع من خلاله إكليروس الكاتدرائيات والكنائس الرعائية
الكبيرة في جماعات على مثال الجماعة الديرية النسكية للقديس مبارك، تحت سلطة رئيس واحد.
اعتمد هذا التنظيم الجديد على قانون القديس مبارك،
بالإضافة الى عدة قوانين أخذت من المجامع الكنسية العامة والخاصة سمّيت بال
"canones" القوانينَ لتوازي الأديار التي تتَّبع قوانين القديس مبارك. هكذا انطلقت الحياة
الرهبانية الديرية في الكنيسة بجناحيها: الديري والنسكي الذي يتبع قانون القديس مبارك وهم رهبان نسّاك داخل أديارهم،
والرسولي التي يتّبع قانون القديس أغسطينس وهو يتألف من الكهنة والإكليروس الذين يخدمون الرعايا في الكنائس الكبرى 3.
إن حصر الحياة الرهبانية في هذين النمطين من الحياة لم يفلح في منع قيام بعض الحركات الروحية حول مركز الكنيسة
المحلية المتمثّلة في الأسقف، ولكنه أعطى ضمانات روحية من قبل الكنيسة لصحة العقيدة الروحية المستقيمة،
والطاعة للسلطات الكنسية، وتنظيم الحياة الديرية. أدى هذا التنظيم الى الاستقرار والنمو في الحياة الروحية للكنيسة.
2 - الحياة الرهبانية العلمانية
نشأت داخل الكنيسة حركات روحية كثيرة، رهبانية منها ونسكية، رغم حصر الحياة الرهبانية ضمن نظامَين. لكن هذه الحركات لم تحظَ بالمرتبة التي حظيت بها الرهبانيات الأخرى على الصعيد القانوني؛ لكنَّ قوانينها بقيت بمرتبة أدنى، أي أنها لا تُعتبر قوانين بما تحمله الكلمة من معنى. وانحصرت في شكل نمط عيش "Vitae formula" وليس قانوناً كالقوانين التي كانت تتمتّع بها الرهبانيات القانونية الأخرى.
وما بين القرنين الثاني والثالث عشر، خسرت الحياة الرهبانية الديرية أي رهبانية القديس مبارك ورهبانية القديس أوغسطينوس، إشعاعها وجذبها الروحي والرهباني لإعتناق الحياة المكرسة وإتباع يسوع المسيح. فبدأت تظهر الى العلن مجدداً حركات كنسية عدة معتمدة على القوانين المحلّية التي لم يدخل من خلالها المنتمون اليها في نظام الإكليروس والرهبان، بل بقوا على حالهم ضمن الحياة المدنيّة؛ فهم ليسوا كهنة، ولا رهباناً، ولا قانونيين، بل رهبان علمانيون يتبعون المسيح من خلال نمط عيش كنسي محلّي تحت إسم رهبان تائبون وصنفوا فيما بعد الى عدة فئات:
أ - التائبون
الرهبان التائبون هم علمانيون
قرّروا إتباع يسوع المسيح من خلال التوبة والتقشف. يبدأ التائب مسيرته الروحية، حسب هذه الطريقة الجديدة،
بالتوجه الى السلطة الكنسية المحلية المتمثلة بالأسقف او بالكاهن، بمباشرة حياته التقشفية من خلال ثوب
التائبين خلال طقس ليتورجي خاص، ثم يتم وضع يد الاسقف او الكاهن ونيل البركة. فينقطع التائب عن العالم
وينضمّ الى الكنيسة مواظباً على الصلاة وعيش التوبة والتقشف متبعاَ نظام حياة الرهبانيات الديرية والفقر
الإنجيلي وقساوة الحياة من خلال الصوم، والصلاة الفردية، وصلوات الساعات القانونية، والصلوات الجماعية في الكنيسة.
ويُبرز التائب نذر الطاعة، في الكنيسة التي ينتمي اليها، للأسقف او لكاهن الرعية.
1 – الحالة الجماعية:
لم تختصر حياة التائبين حول الكنائس فقط بل كانت متنوعة جداً، فمنهم من كان يعيش ضمن
الرعية في المدن وآخرون في الجبال وغيرهم في مناسك بعيدة. وكان الالتزام بالفقر الإنجيلي يختلف فيما بينهم: فمنهم من عاش الفقر متخلّياً عن كل شيء، ومنهم من كان يحتفظ بحق الامتلاك وأخرون وضعوا كلَّ ما يملكون بتصرّف الجماعة التي ينتمون اليها. وهكذا تكونت بعض الجماعات التي تعيش الفقر الإنجيلي والتقشف تحت سلطة مكرّس آخر علمانياً كان أم كاهناَ.
2 – الحالة الديرية:
إن الحالة القانونية المثلى للتائبين هي حالة التائبين الذين يعيشون داخل أديار الرهبانيات الكبرى.
فهم ليسوا كهنة ولا رهباناً بل تائبون يعيشون داخل أديار الرهبانيات القانونية. مع انهم ينذرون الطاعة للرئيس، لكنهم لا يتمتّعون بالحقوق والواجبات التي يتمتّع بها الرهبان الأخرون، بالأخص بلناحية لصوت الفاعل في المجامع الديرية. وتقتصر صلواتهم على تلاوة صلاة الأبانا فيما لا يسمح لهم بمارسة التأمل. يعبّرون عن الحياة الرهبانية المتواضعة بمزاولة الأعمال اليدوية الديرية، لكي ينصرف الرهبان الآخرون الى الصلاة والتأمل.
3 – الحالة البيتية:
هم تائبون متزوّجون وأفراد إتبعوا يسوع المسيح في الصوم والصلاة والحياة التقشقية،
فشكّلوا هم أيضاً حالةَ من حالات التائبين في الكنيسة. فاعتزلوا الحياة العلمانية، ولبسوا ثوب التائبين مبتعدين عن رغد العيش، وعاشوا حياتهم الزوجية بالصوم والصلاة على مثال الرهبان المكرّسين. وكان لهم الحضور الفعّال في خدمة الكنيسة والمشاركة في الصلوت الجماعية.
ب – النساك
تعتبر الكنيسة الحياة النسكية شكلاً من أشكال الحياة المكرّسة التي تدعو الى عيش الكمال الإنجيلي من خلال إتباع يسوع المسيح. وتعتبر الحياةُ النسكية اولى أشكال الحياة الرهبانية، المعترف بها رسمياً وذلك الإبتعاد عن العالم والإختلاء في الأماكن المقفرة من جبال ووديان وصحارى.
انطلقت الحياة النسكية في القرون الأولى لنشأة الكنيسة، من رغبة فردية بعد سماع كلمة الرب في الإنجيل،
ثم ما تلبث ان تتحوّل الى ترك العالم والاختلاء في مكان بعيد، وقضاء الحياة كلها في التأمل في كلمة الرب ليل نهار.
وفي القرنين الحادي عشر والثاني عشر أخذت الحياة النسكية منحى آخر يتميّز عن ما كان تحمله الكلمة من معنى،
فاصبحت الحياة النسكية تتجسد في الإبتعاد عن الإنشغالات الديرية اليومية. من هنا جاءت الدعوة الى الرجوع الى الحياة الرهبانية النسكية. وجاءت هذه الصحوة الروحية كردة فعل على الحياة الرهبانية المنتشرة في المدن. فبالرغم من إبرازهم النذور الرهبانية، وجد الرهبان انفسهم في أديار فخمة ذات امتيازات مدنية واسعة، وانغمسوا في شؤون إدارة الممتلكات المدنية، والعلاقات مع العلمانيين في أغلب حياتهم اليومية. هذا التغيير لم يتوقف على النواحي السطحية في الحياة الرهبانية الديرية بل طال طريقة العيش والتنظيم في الأديار فأصبح الإختلاء والابتعاد عن العالم الهدف الرئيسي في الأديار. من هنا نرى الأديار التي تتبع القوانين الديرية تنهج أيضاً الحياة النسكية. فالفرق واضح جداً بين الناسك الذي يتبع عيش الكمال الإنجيلي بطريقة فردية في البراري، والناسك الذي يعيش في حياة جماعية تتبع قوانين واضحة ومعترف بها كنسياً.
من هذا المنطلق نستطيع تقسيم الحياة النسكية في القرن الثاني عشر الى قسمين:
1 – نسّاك ديريون:
يتبعون قوانين الرهبانيات المعروفة أي قانوني القديسين مبارك وأغسطينوس،
ولكنهم ينعزلون عن باقي الرهبان في مكان مقفر. وهم يرتبطون ارتباطاً تاماً بالدير بما أنهم يتبعون القانون
التي تفرضه عليهم نذورهم الرهبانية بما فيها الطاعة لرئيس الدير، وتسيير الشؤون الروحية والمادية .
2 – نساك علمانيون:
إنهم جماعات من النساك لا يتبعون ايَّ قانون ينظّم طريقة عيشهم،
ويعيشون حياة فوضى لا يجمعهم سوى عداؤهم للحياة الرهبانية داخل حصن الدير، وردة الفعل التي يقومون بها ضد
الغنى الذي تتمتَّع به الأديار الكبرى. انه نمط عيش الفقر الإنجيلي بالصوم والصلاة المطوّلة، والتقشف، والعمل اليدوي.
فمنهم من كان يعيش حياة الرحّل في حج دائم يجوبون المدن والقرى مبشرين بالإنجيل، ويعيشون على العمل اليدوي والتسوّل. وبما انهم لا يتبعون أي قانون ينظّم حياتهم كانوا ينتقدون الأساقفة والإكليروس ويعمدون الى إنتقاد الحياة الرهبانية الديرية.
تشابهت طريقة عيشهم مع التائبين الذين، بدورهم، كانوا يتركون اماكنهم ويعيشون رُحَّلاً.
ولكن كان يربطهم بالكنيسة المحلية نذر الطاعة للرؤساء المحليين. فالوضع القانوني للتائبين كان افضل من الوضع القانوني للنساك، لكن لا نستطيع تسميتَهم رهباناً. كان باستطاعتهم الزواج وليسوا ملزمين بنذر الطاعة سوى بطريقة طوعية الى أسقف أو كاهن او علماني آخر، مع أنهم يعيشون الفقر الإنجيلي المدقع أكثر من سواهم من المكرَّسين.
ج - الحجاج
منذ القرون الأولى، أعتبرت الكنيسة الحجّ طريقة روحية عميقة لعيش التقشف الإنجيلي، من خلال إعلان نية الحاج. وتتلخص الفكرة الروحية السائدة التي ينطلق منها الحاج بأنه غريب عن هذه الدنيا وليس له موطن سوى الموطن السماوي، وبأن الحياة على هذه الأرض ليست سوى مكان مرور للحياة الأبدية: انها أرض غريبة وليست وطناَ نهائياً.
تبدأ فكرة الحج من ترك المؤمن مسكنه الدائم لكي يذهب ويعيش في أماكن أخرى لا يعرف احداً، وهو غريب عن العالم، ومن دون أهل وأصدقاء، ولا حماية او إستقرار. هو شكل من أشكال النفي، او شرخ مع المجتمع وهجر للحياة المدنية. من هذا المنطلق يعتبر الحج بداية توبة عميقة تتبلور بترك المكان الذي عاش فيه الفرد بعيداً عن الله منغمساً بالخطيئة، من خلال حرمان الذات من سهولة الوقوع بالخطيئة. إن الحج هو فعل توبة تفرضه السلطات الكنسية على الإنسان، لإرتكابه خطيئة علنية أو جريمة كبرى أو مبادرة حج شخصية يبدأه الفرد من تلقاء ذاته كفريضة تكفيرعن خطيئة إرتكبها ويحاول التكفيرعنها.
ينطلق الحاج بمسيرته الى مكان غريب، حيث لا يعرف اللغة والعادات والتقاليد،
وليس له أقارب ولا اصدقاء ولا يتمتّع بأية حقوق مدنية، من دون سلطة، وليس هناك من دور يلعبه،
وهو مرذول بين الناس. بهذا المعنى يشعر بالفقر التام.
إذ يعتبر الحج أنه نوع من أنواع الفقر الاختياري بإتباع يسوع المسيح الفقير بطريقة خاصة 4
"Nudus nudum Christum".
يصل الحاج الى أسمى درجات الانقطاع والاختلاء والتجرّد،
عندما يبدأ طريق الحج. بهذا يكون قد اعتنق الحياة النسكية الفردية فيقطع كل ارتباط بمحيطه العائلي والإص
دقاء وبكل نوع من العلاقات الاجتماعية والانسانية. فالحاج هو مسافر وحيد انطلق لكي يعتزلَ الحياة،
ويعيش هذا الإنقطاع والنسك بالرغم من انه يلتقي في طريقه بكثير من الأشخاص ولكنه يبقى غريباً عنهم.
في أغلب الأحيان، يكون الحج وفاء لنذر قطعه المؤمن على نفسه، بأن يغيّر حياته جذرياً فينقطع كلياً عن ماضيه،
ويعيش حياة تقشّفية بمسيرة مستمرّة. ينطلق الحاج في مسيرة تبدأ بنيل البركة من السلطة
الكنسية المحلية وبالتقدم من سر التوبة وتسلّيم إشاراتُ الحج، وهي كناية عن ثوب وعصى خاص بالحجاج "Bordone".
وجهة هذا الحج يمكن ان تكون أماكن مقفرة، او دير من الأديار يحتوي على ذخائر قديسين؛ وهذا يأخذ الطابع المعروف بزيارة الأماكن المقدسة. كانت الأراضي المقدسة أكثر الأماكن قداسة بالنسبة الى الحجاج الأوروبيين، وهي الأرض التي مشى عليها يسوع المسيح وقدّسها بتقديم ذاته ذبيحة على الصليب.
من انواع الحج المعروفة هي:
1 – الحج الأورشليمي:
ترجع فكرة الحج الى أورشليم الى القرن الرابع، وكانت تعتبر فريضة توبة لبعض الجنح الكبيرة.
إرتفعت وتيرة الحج الى الشرق في القرن الحادي عشر، مع الحملات الصليبية. حملت الحملات الصليبية في طياتها قيم التقشف التي تعتبر من القواعد الأساسية لإتباع يسوع المسيح والإنطلاق الى الحج. وكان الحج الى اورشليم طريقة تقشف خاصة بالعلمانيين الذين ينوون بدء مسيرة توبة في حياتهم الروحية.
2 - الوعد 5 او "Propositum":
يكمن في مضمونه إتباع يسوع المسيح،
والذهاب الى ما وراء البحار الى الأرض المقدسة. فالأرض المقدسة كانت تعتبر
ورثة يسوع المسيح ومملكته على الأرض. فمن يحصل على مسكن في هذه الأرض المقدسة يكون قد نال حظوة عند الله، ولذلك يجب عليه ان يكون خادماً أميناً في هذه المملكة. عمد الحجاج، في أغلب الأحيان، الإنتساب الى أديار الرهبانيات التي تتبع القوانين الديرية، او الإنضمام الى الجماعات العلمانية التي تعيش بتقوى، وذلك للمحافظة على هذه الحياة النقية بعيداً عن الخطيئة. هاتان الحالتان كانتا مناسبة جلية للتعبير عن التوبة العميقة، ومحبة الله، وتلبية لنداء الله الذي يدعونا الى حمل الصليب معه والخروج من أرضنا للدخول الى ارض الميعاد.
ترتبط الحياة الرهبانية العلمانية في كنيسة القرن الحادي عشر بعضها ببعض، فإنها لا تنفصل الأولى
عن الأخرى بل تشكّل حلقة تدور فيها الأنماط التي ذكرناها فتكمل بعضها بعضاً بأشكالها الثلاثة التائبين والنساك والحجاج.
من هنا فالحاج هو تائب يمضي في طريق الحج لكي يتمّ توبته إن كان بالصلاة أو بالأعمال الحربية بإسم المسيح، التي فيه تنطلق معظم
الأحيان من شوق الى الشهادة، إما بالانعزال في اماكن مقفرة،
إما بتمضية الحياة في خدمة أحد الأماكن المقدسة كوسيلة للتكفيرعن الخطايا .
6