الرسَالة الأولى العـَامةدروب هذا التفكير التاريخية: تعليم الكنيسة من المجمع التريدنتيني...
لا يفوت علم أحد كيف أن الكنيسة قد أقدمت، في الأزمنة الأخيرة، على التعمق في درس ذاتها بفضل عمل العلماء المشهورين والعقول الراجحة والعميقة ومدارس اللاهوت الكفوء والحركات المختصة بالشؤون الراعوية وعمل الرسالة والاختبارات الدينية الطافحة بالفوائد ولاسيما تعاليم الأحبار الأعظمين الخالدة.
يطول بنا الوقت إذا جئنا نلمح ولو تلميحاً بسيطاً إلى كل ما دبجته الأقلام اللاهوتية وكان موضوعه الكنيسة وإلى ما أنتجته الكنيسة ذاتها في القرن الماضي وفي عصرنا.
كذلك يطول بنا الوقت إذا جئنا نذكّر بالوثائق التي نشرها الأساقفة الكاثوليك وهذا الكرسي الرسولي عن هذا الموضوع الجلل، عن هذا الموضوع الهام والواسع جداً.
فمنذ أن راح المجمع التريدنتيني يسعى جاداً إلى إصلاح ما تسببت به الأزمة التي فصلت عن الكنيسة، في القرن السادس عشر، عدداً عديداً من أبنائها، أكب رجال عظام على التعليم المتعلق بالكنيسة يقتلونه درساً ولا تزال تلك الدروس تمتد عمقاً واتساعاً. يكفينا هنا أن نعود إلى تعاليم المجمع الفاتيكاني الأول لندرك كيف خلقت الدروس المختصة بالكنيسة موضوعاً يرغم انتباه الرعاة والمعلمين كما يرغم انتباه المؤمنين وجميع المسيحيين على أن يتوقفوا، كأنهم في مرحلة إجبارية، على الطريق المؤدية بهم إلى المسيح وإلى عمله كله: إلى حد أن المجمع الفاتيكاني الثاني إن هو إلا مواصلة وتتمة للمجمع الأول لالتزامه بالعودة إليه في بحثه تعليم الكنيسة وتحديده.
... إلى رسالة بيوس الثاني عشر: "جسده السري" ...
وإذا كنا لا نتبسط، رغبة منا في الإيجاز، ونحن شخصيات تعرف، حق المعرفة، موضوع هذا التعليم والروحانية المنتشرة اليوم في الكنيسة فلا نستطيع مع ذلك أن نغفل عن وثيقتين اثنتين، خليقتين بذكر خاص، عنينا: رسالة البابا لاوون الثالث عشر (1896) وعنوانها "معروف كفاية"، ورسالة بيوس الثاني عشر (1943) وموضوعها "الجسد السري". رسالتان تقدمان إلينا تعليماً واسعاً ونيراً عن المنظمة الإلهية التي يواصل المسيح بواسطتها عمله الخلاصي في العالم وهي اليوم موضوع حديثنا معكم.
يكفينا أن نذكر الكلمتين اللتين تفتتح بهما الثانية من هاتين الوثيقتين الحبريتين التي أصبحت، بحق، مرجعاً لمعلمي اللاهوت في الكنيسة ومادة غزيرة وغنية للتأملات الروحية في عمل الرحمة الإلهية، هذا الذي يخصنا جميعاً. فها كم إذن الكلمات المحكمة التي كتبها سلفنا: "إن تعليم جسد المسيح السري الذي هو الكنيسة قد سقط قديماً من شفتي الفادي ذاته. تعليم يبين لنا الخير الأعظم، الغير الممجد أبداً كفاية، الناتج عن اتحادنا الوثيق برأس جدّ نبيل، تعليم يدعو بأهميته وسموه، إلى التأمل، جميع الناس، الشعورين بتحريضات الروح القدس الذي ينير عقولهم ويدفعهم، بشدة، على أعمال الخلاص التي تتجاوب مع الوصايا الآتية من عَلُ. (مجلة أعمال الكرسي الرسولي مجلد 35 صفحة 193 لسنة 1943).
وفي تلبيتنا هذه الدعوة التي نعتبر أنها لا تزال فاعلة في نفوسنا وبطريقة تجعلها تعبر عن حاجة من حاجات الكنيسة الأساسية في عصرنا، نعرضها اليوم، بدورنا، لكي، إذا كنا دوماً مثقفين بمعرفة الجسد السري ذاته ثقافة تزداد يوماً بعد يوم، نعرف أن نقيّم الدلائل الإلهية وبهذا نضمن لأنفسنا تعزية لا مثيل لها ونعمل بشكل يجعلنا دوماً أجدر بالتجاوب مع واجبات رسالتنا ومع حاجات البشرية.
... إلى المجمع الفاتيكاني الثاني، معرفة جديدة للكنيسة.
ويلوح لنا أنه ليس من الصعب علينا أن نقوم بهذا العمل ولاسيما عندما نلحظ، من جهة، كما قلنا، ازدهار الدروس التي تدور حول الكنيسة المقدسة؛ ونعرف، من جهة أخرى، أن نظر المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني، مصوب إليها. لذلك نحب أن نوجه مديحاً عاطراً إلى رجال الدروس الذين وقفوا على العلم الكنسي، ولاسيما في السنوات الأخيرة، مع خضوع تام للسلطة التعليمية الكاثوليكية وفي أبحاث عميقة وتعبير متفوق وثمن جهد شاق، أشغالاً وافرة ونافعة؛ وإلى الذين قدموا، أن كان في المدارس اللاهوتية أم في المباحثات الجدلية العلمية منها والأدبية، أم في الدفاع عن الكنيسة أم في تعميم التعليم العقائدي، أم في المساعدات الروحية يقدمونها إلى نفوس المؤمنين أم في المحادثات مع الإخوة المنفصلين، شروحاً كثيرة، نيرة لتعليم الكنيسة ومن بينها شروح ذات قيمة عالية ونفع عظيم.
لذلك لنا ملء الثقة بأن الروح القدس سيعضد عمل المجمع بنوره وأن آباء المجمع سيتابعونه ويوصلونه إلى نهاية حسنة بخضوعهم الأمثل لإلهاماته الإلهية وبالحد يبذلونه في التعمق في البحث الأكمل عن فكرة المسيح الأصيلة وتطورها الضروري والشرعي على مر العصور، وبإرادة صليبة في جعل الحقائق الإلهية موضوع وحدة لا فرصة خلاف وانشقاق في منازعات عقيمة أو في قطيعة يُرثى لها – كلا – بل عامل نور وإلفة تتزايد يوماً بعد يوم ينتج منها مجد لله وفرح للكنيسة وبنيان للعالم.
وبقصد وروية نمتنع عن أن نصدر، في هذه الرسالة، أي حكم شخصي حول النقاط العقائدية المتعلقة بالكنيسة، الخاضعة الآن للدرس والبحث في المجمع الذي دعينا إلى ترأسه؛ لأنّا نريد أن نترك، في الحاضر، إلى هذه الجمعية السامية وذات السلطان، الحرية في أن تدرس وتتكلم، محتفظين لمنصبنا، منصب المعلم والراعي، القائم على رأس كنيسة الله، بالوقت وبالطريقة لإظهار حكمنا، وسنكون سعداء إذا استطعنا أن نقدمه مطابقاً، من جميع نواحيه، لحكم أباء المجمع.
ولكننا لا نستطيع أن نسكت عن تلميح سريع إلى النتائج التي ستكون، كما نتمنى، إما ثمرة من ثمار المجمع وإما ثمرة الجهد الذي أشرنا إليه سابقاً، جهد حتم على الكنيسة أن تبذله ليكون لها عن نفسها معرفة أكمل وأقوى.
تلك النتائج، هي التي نعيّنها غايات لمهمتنا الرسولية في الوقت الذي بدأنا نتحمل أعباءها الثقيلة والحلوة. إنها تحدد، على نوع ما، منهاج حبريتنا.
فعليكم أيها الإخوة المحترمون، نعرضها باختصار كلي، ولكن بصدقٍ، لكي تتفضلوا وتمدوا إلينا يد العون لنخرجها إلى حيز العمل إذ تساعدوننا بمشورتكم ورضاكم ومعاضدتكم، ونعتقد أننا، إذ نفتح لكم قلبنا، نفتحه لجميع أبناء كنيسة الله وحتى للذين يستطيع صدى صوتنا أن يصل إليهم عبر حدود حظيرة المسيح بدون تمييز البتة.
عناصر هذا التفكير:
أن نرى المسيح في الكنيسة
الثمرة الأولى التي تجنيها الكنيسة من معرفتها العميقة لذاتها هي اكتشافها المجدد لعلاقتها الحية بالمسيح. شيء معروف وأساسي وضروري لا غنى لنا عنه؛ ولكننا لا نعرفه ولا نتأمل فيه ولا نعظمه بما فيه الكفاية. فأي شيء لا ينبغي أن نقوله في هذا الفصل المركزي عن تراثنا الديني؟ إنكم، حمداً لله، تعرفون جيداً نقاط هذا التعليم؛ ولسنا هنا لنزيد كلمة واحدة على ما تعرفون؛ إلا أننا نوصيكم بأن تتوخوا التفكير فيه تفكير كم بصفوة التعليم الكاثوليكي، الصفوة التي توجه حياتكم الروحية مثلما توجه عظاتكم. فأكثر مما تنصتون لكلمتنا، أنصتوا إلى تحريض سلفنا بيوس الثاني عشر في رسالته "الجسد السري": "حتم علينا أن نعتاد أن نرى، في الكنيسة، المسيح ذاته، هو المسيح، في الواقع من يحيا في كنيسته، وبواسطتها يعلم وبها يحكم ويمنح القداسة؛ هو المسيح أيضاً من يظهر بأشكال متنوعة في أعضائه الاجتماعيين المختلفي المظهر". (مجلة الأعمال الرسولية في المجلد المار ذكره صفحة 236).
آه! كم يحلو لنا أن نتوقف عند الذكريات التي تسيل إلينا من الكتاب المقدس ومن الآباء ومن المعلمين ومن القديسين عندما نعود فنفكر في هذه النقطة النيرة من نقاط إيماننا؟ ألم يقل لنا يسوع المسيح نفسه أنه الكرمة ونحن الأغصان؟ (يوحنا 15 : 1 وما يليها) أليس ماثلاً في أذهاننا التعليم الغني الذي ما انفك بولس الرسول يذكرنها به "لأنكم جميعاً واحد في المسيح (غلا 3 : 8) ويوصينا أن "... نعتصم به بالحق في المحبة فننمو من كل وجه (مرتقين) نحو من هو الرأس أي المسيح الذي منه ينال الجسد كله التنسيق والوحدة (أفسس 4 : 15 و 16) وينبهنا "... بل المسيح الذي هو كل شيء وفي كل شيء". (كولسي 3 : 11).
وليكفنا أن نذكر بين المعلمين وعنهم جميعاً، القديس أغوسطينوس: "لنفرح ونشكر لا لأننا صرنا مسيحيين فقط بل لأنا صرنا المسيح! فهل تفهمون، يا إخوتي، عطية الله التي هي رأسنا: انذهلوا وافرحوا لقد أصبحنا المسيح؛ فإذا كان المسيح هو، حقيقة الرأس، فنحن الأعضاء؛ إنسان واحد: هو ونحن... الرأس والأعضاء هذا هو المسيح الكامل. فمن هو المسيح ومن هم الأعضاء؟ المسيح والكنيسة"! (مقالته في إنجيل يوحنا 8 – 21).
أن نفهم الكنيسة، المؤسسة على بطرس
نحن عالمون أن هذا السر هو سر الكنيسة. وإذا كنا، بعون الله، نحدق ببصيرتنا في هذا السر ونتأمل فيه فسنجني من تأملنا فيه خيرات روحية كثيرة، تلك الخيرات التي نعتقد أن الكنيسة تفتقر إليها في الأحوال الراهنة، فحضور المسيح وحياته ذاتها ستتفاعل في كل نفس من نفوس الجسد السري وفي مجموع أعضائه بممارسة الإيمان الحي والمحيي وفقاً لكلمة الرسول: "ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم" (افسس 3 : 17).
إن معرفة سر الكنيسة هي، في الواقع، نتيجة إيمان ناضج ومعيوش. إنها تخلق في النفس "فهم الكنيسة" الذي يتغلغل في المسيحي المتربي في مدرسة الكلمة الإلهية، والمشبع من نعمة الأسرار ومن الهامات البراقليط الفائقة الوصف، المنقاد إلى التمرس بالفضائل الإنجيلية والمشرّب روح الثقافة وحياة الكنيسة المشتركة والمغتبط باطنياً بشعوره أنه متجلبب بوشاح الكهنوت الملكي الخاص بشعب الله (راجع رسالة بطرس الأولى 2 : 9).
ليس سر الكنيسة موضوع معرفة لاهوتية بالبساطة، بل يجب أن يكون واقعاً معيوشاً تستطيع النفس الوفية أن تجد فيه، حتى قبل أن تحصل على معرفة به جلية، خبرة كأنها طبيعية، وفي طاقة جماعة المؤمنين أن تجد فيه اليقين الباطني باشتراكها في جسد المسيح السري عندما تعلم أن من بدأه فيها، يلدها (راجع غلا 4 : 19؛ وكورنتس أولى 4 : 15) ويثقفها ويقدسها ويرشدها هذه هي مهمة السلطة الكنسية النظامية التي هي من وضع الله إلى حد أن المسيح يفيض في أعضائه السريين، بواسطة هذه القنال، اتصالات حقيقته ونعمته العجيبة ويمنح جسده السري، السائر في الزمن، نظامه المنظور ووحدته الشريفة والطابع التوظيفي لجهازه وتنوعه المنسجم وجماله الروحي. إن الصور لا تكفي لتنقل إلى فكرٍ سهلة الفهم حقيقة مثل هذا السر وعمقه. فبعد هذه الصورة للجسد السرّي التي جئنا على ذكرها وهي من وحي القديس بولس. هنالك صورة أخرى يجب أن لا ننساها لأن الموحي بها هو المسيح ذاته، صورة البنيان، الذي هو مهندسه وبانيه. بنيان هو في الحقيقة مرتكز على إنسان، من طبعه ضعيف، ولكن المسيح حوّله، بأعجوبة، إلى صخر صليب في دوام أي متجمل بخلود عجيب وبدون حد "وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي" (متى 16 : 18).
فإذا عرفنا أن نصقل فينا ونرسخ في عقول المؤمنين، بتربية عميقة ويقظة، هذا المفهوم الصارخ للكنيسة، تتلاشى وتُحلّ متناقضات كثيرة تتفشى اليوم وتبلبل فكرة أناس كثيرين، مكبين على التنقيب في الدروس الكنسية – كيف تكون الكنيسة، مثلا، منظورة وروحية في آن واحد؛ كيف تكون حرة وخاضعة للنظام، كيف تكون جماعة مشتركة وذات نظام متسلسل؛ تأملية وعاملة وهلم جرا – كل هذه التناقضات، قلنا تتلاشى وتحل، عملياً، عقدها في اختبار حقيقة الكنيسة الحي التي ينيرها تعليمها.
على أن هناك، خاصة، مكسباً سيُضمن للكنيسة ذاتها، وغنى لروحانيتها المثلى تغذيها قراءة الكتاب المقدس قراءة إبنية. وقراءة الآباء القديسين ومعلمي الكنيسة ويقويها كل ما يفجر فيها هذه المعرفة، عنينا: التعليم الصحيح والقياسي والاشتراك في الليتورجية، هذه المدرسة العجيبة، مدرسة الكلمات والاشارات، وعطايا الله المفضاة والتأمل في الحقائق الإلهية الصامت والحار وأخيراً الانصراف السخي إلى الصلاة العقلية. إن الحياة الباطنية تبقى دوماً وأبداً المصدر الأولي لروحانية الكنيسة وطريقتها الخاصة لقبول أشعة روح المسيح والتعبير الأصيل الذي لا يقوم شيء مقامه عن حيويتها الدينية والاجتماعية والدفاع الذي لا يقهر والحمية الجديدة في علاقاتها الصعبة مع العالم الدنيوي.
هي المعمودية التي تدخل الإنسان في الكنيسة
ينبغي أن نعيد إلى هذا الواقع، واقع قبولنا سرّ العماد المقدس أي السر الذي يدمجنا في جسد المسيح السري الذي هو الكنيسة، كل أهميته. فيجب على المعمد، خاصة، أن يعرف قيمة ارتقائه أو، بتعبير أفضل، قيمة ولادته الثانية، قيمة سعادته في أن يكون، حقاً وحقيقة، ابن الله بالتبني وبأن يكون له مكانة أخٍ للمسيح، وبأن يقدر امتياز النعمة والفرح الناجم عن سكنى الروح القدس فيه حق قدره؛ وأن يعلي مكانة دعوته إلى حياة جديدة لا تفقده شيئاً من إنسانيته ما عدا عواقب الخطيئة الأصلية المشؤومة بل إنها، على العكس من ذلك، تستطيع أن تعطي، لكل ما هو إنساني، تعبيره الأفضل وتجعله ينتج أوفر الثمار وأنقاها.
أن يصير الإنسان مسيحياً، أن يُمنح سر العماد المقدس، ليس بالأمر القليل الأهمية أو بالأمر الذي يمكن التغاضي عنه؛ هذا ما يجب أن يكون راسخاً رسوخاً عميقاً في ضمير كل معمود وأن يغبط نفسه عليه؛ ويعتبر، العماد، كما كان الأقدمون يعتبرونه، "نوراً" يصبّ عليه شعاع الحقيقة الإلهية المحيي ويفتح له باب السماء ويلقي ضياء جديداً على حياته الأرضية، ويجعله قادراً على السير، كابن النور، نحو مشاهدة الله، مصدر السعادة الأبدية.
من السهل علينا أن نتبين أي نهج يضعه هذا الاعتبار أمام نظرنا وأمام مهمتنا. إننا لنغتبط إذ نرى أن هذا النهج قد بدأ يتحقق في الكنيسة جمعاء ويتقدم صعداً تدفعه غيرة رشيدة وأجاجة. إننا نشجع عليه ونوصي به ونباركه.