(من كرمَل " Carmelo Santa Fe - Argentina" - الأرجنتين)
5 \ 12 \ 1973 – 23 \ 6 \ 2016
كثيرون هم الذين طرحوا علينا الأسئلة عن شهادة الأخت "سيسيليا-ماريا للوجه الأقدس" لدعوتها الرهبانيَّة. وها نحن اليوم نقدِّمُها لكم باللغة بالعربية، وقد نُشِرَت هذه الشهادة في مجلة "دي بوستا!" التابعة لحركة اللقاء المسيحي في أبرشية "سانتا فيه - Santa Fe " في الأرجنتين سنة 2009. وهي كالتالي:
"يا ربّ، أنا سعيدة في ظلِّ جناحيك"
ربما يسأل البعض نفسه كيف يمكن لأي شخص، كيف يمكن لامرأة بأن تصبح راهبة، راهبة كرملية حافية (وفوق ذلك كلّهِ، حبيسة)، من الدعوات الرهبانية اللواتي يحبِسنَ نفسهنَّ مدى الحياة!
ما عساه قد مرَّ في فكرها وفي قلبها كي تتَّخذ قراراً كهذا؟
أنا الأخت "سيسيليا-ماريا للوجه الأقدس، راهبة كرمليَّة حافية في رهبانيَّة الطوباويَّة العذراء مريم سيِّدة جبل الكرمَل، من بنات أمّنا القدِّيسة الكبيرة تريزا ليسوع الأفيليَّة. حاولت أن أشرح الأمر لوالديَّ، ولإخوتي وأخواتي، ولجدَّتي، ولأقربائي، وأصدقائي، بكلّ المعرفة التي كنتُ أملكها وبالتي لم أكن أملكُها. فبعد أن أمضيتُ 10 سنوات ككرملية، أشعرُ بالإلهام لأروي لكم كل شيء...
كلّ قصة تروي كيف يدعو الله نفساً هي قصة رائعة. يشبهُ الأمرُ عندما نتسلَّقُ جبلاً ونكتشف مناظر فريدة من نوعها تبقى محفورة في وجداننا. ومهما التقطنا من الصور الجميلة، لا تكون نفسها عندما نريها لشخص زار ذلك المكان. كلّما رغب الشخص في أن يُخبر عن الأمر، يبقى مع ذلك ألف فارق بسيط بين النفس والله.
منذ نعومة أظافري، حلمتُ بالزواج. وفيما كنتُ أكبر، كنت أفكِّرُ، "إمَّا راهبة أو متزوّجة، ولكني لن أمسي عانساً أبداً!" عندما بلغتُ 15 سنة، وقعتُ في حبِّ أحد الشبان، لكنَّ الرَّبّ كان يسُدُّ طريقي، فيجعلني دائمًا أرغبُ في أكثر من ذلك، نوع من "لا أعرف ماذا". لتضحكوا فقط، في سنتي الخامسة، اخترتُ الكنيسة ولكن كان ينقصني "المواد الأولية المحدَّدة". فاستعمل الله أستاذ التعليم المسيحي، كانت حصَصُهُ تكلّمني عن الله بشكل كلّي. كان كلّ شيء يجعلني أرغب في السماء. فبدأتُ أذهب إلى القداس يوميًا. وكنتُ أذهبُ بنوع خاص مع إحدى الصديقات. كنّا دائمًا نجد الكثير من الأصدقاء عندما نخرج. وكنتُ سعيدة جدًا لأنَّ عددنا كبير.
بدأتُ أحدِّد أوقات صلاة خاصة لي. وشرعتُ أتلو صلاة الوردية (وهو ما وجدته أمراً مملاً للغاية)، ولكني أردتُ أن أحبّ العذراء بكلّ جوارحي!
عرَّفنا هذا الأستاذ نفسه إلى القدّيسة "تريزا ليسوع"، من "أفيلا"، وساعدنا لنتعرَّف إليها ونحبَّها. وقد فُتِنتُ بحميميَّتها مع المسيح، لأنهُ في سيرة حياتها، كانت تجعلني أصلِّي معها، مع أنَّني لم أكن أعرف كيف أصلِّي. كانت تجعلني أحدِّق إلى المسيح. كانت تعلِّمني كيف أصلِّي، وهو ما وصَفَتهُ بـ"مشاركة حميمة بين صديقين، أن آخذ الوقت مراراً لأكون وحدي معه، هو الذي نعرف أنه يحبُّنا". وإليكم عبارة كانت تتميز بها كثيراً، وقد أعجبتني جداً، وهي أنَّه لنكون مع يسوع، لا ضرورة لنقسِّم رأسنا، لأنه لا يريدنا أن نكسر رأسنا، بل هو يفرح ببساطة بمحبَّتنا ورفقتنا.
حلمتُ يومًا بالذهاب إلى "أوروبا" مع صديقة أخرى. وذات مرَّة، اشتركنا في اليانصيب أو "كويني 6".
ربما استشفَّت جدَّتي رغباتي، لأنه في تلك السنة دعتني للسفر إلى "البلد القديم" ودفعت عني لأنضمَّ إلى إحدى الرحلات. لم يكن شيء في العالم ليمنعني من الذهاب إلى "آفيلا" (مع أنها لم تكن مدرجة في جدول الرحلة). فقد أردتُ أن أذهب إلى حيث عاشت القدِّيسة "تريزا" – أمّ ومصلحة حفاة الكرمَل – لكن بالنسبة إلى الراهبات، لم يكن قد خطر لي أي شيء بالنسبة إليهنّ
كنا في 31 كانون الأول، حيثُ عرض بعض الأصدقاء اصطحابي إلى هناك بالسيارة. أولاً، كنا سنذهب إلى "سيغوفيا". ولم أكن أعرف أنه فيها قُبِرَ القدّيس "يوحنا الصليب" (أب ومصلح الكرمَل - للرهبان). عندما رأيتُ اللافِتة "بالصدفة"، طلبتُ منهم راجيةً أن يسمحوا لي بالخروج حتى ألتقط بعض الصور. وهناك، قرب مقبرته، توسلتُ بكل حماسةِ نفسي وتوقها الشديد، أن يضيء لي على دعوتي.
حسناً، في الحقيقة، لم أشعر أنه استجاب لي على الإطلاق. وعندما وصلنا إلى "آفيلا"، كانت الساعة السادسة مساءً، في عزّ الشتاء، تقريباً في الليل. ذهبنا إلى دير "التجسُّد". والتقيتُ بالفتيات المسؤولات عن المتحف، اللواتي كنَّ ذاهبات لإعادة المفاتيح إلى الراهبات. أما حارس الباب، فبعد أن رأى حزني الشديد لأنني وصلت متأخرة لهذه الدرجة، أشار إليَّ أن أتبعهنّ.
دخلنَ إلى غرفة مصنوعة من الحجر بالكامل (لأنها بُنيَت منذ زمن طويل جداً- سنة 1500 ونيِّف) وكانت باردة لدرجة أنك تستطيع أن تتجمَّد في داخلها! كنَّ يتكلَّمن من وراء مصبَّع خشبي مع راهبة لطيفة جداً، وهذا المصبَّع يفصل الراهبة عن العالم – عرفتُ لاحقاً أنه يُدعى "مصبَّع" وهو غير الدولاب الخارجي الذي تكلِّمُكَ الراهبة من خلفِهِ-. لكن لم نكن نستطيع رؤيتها جيِّدًا، بل كنا نسمع صوتها وحسب. طلبت من الفتيات أن يسألنها راجيات أن تبقى، لأنني أردتُ أن أكلّمها. بالنسبة إليّ، كنتُ وكأنني أكلِّم القدِّيسة "تريزا ليسوع" بنفسها. كلّ ما كان يسعني فعله هو البكاء والبكاء. ثم قامت الفتاتان اللتان دخلتا معي بتركي هناك بمفردي.
قالت لي الراهبة التي تُدعَى "تريزا ليسوع" وهو الإسم نفسه للقدِّيسَة الكبيرة. أنَّها رأت فيَّ "دعوةً واضحة وضوح النهار، وألا أنتظر أن يأتي إليَّ ملاك ليهمس لي ذلك في أذني..."
وفيما كنتُ أبكي، شعرت في داخلي أنَّ حب الله اللامتناهي كان يُقدَّم لي بكليته. وكأنها حالك عندما تدرك فجأةً الحُبّ كله الذي يكنُّه شخصٌ ما لك، شخص أحببتهُ كثيراً – ولكنك لم تتصوَّر قط كم كان حجم ذلك الحُبّ. شعرت أنني صغيرة جداً، وكأنني خجلة من أشعر أنني محبوبة بهذه الطريقة، لكن في الوقت نفسه، شعرت بسعادة عارمة وحلوة، تلك السعادة التي لا يمكن وصفها.
الآن، بعد مرور الوقت، فيما أدرك أكثر فأكثر عيوبي وقيودي، التي لم أكن على علمٍ بها حينذاك، يهزُّني حُبُّ الله حتى أكثر من قبل. أن يحبني لهذه الدرجة، حتى كما أنا!
أعترف أنه حتى مع جميع العلامات والنعم، لم يكن ذلك كافياً لي لأشعر بالأمان. فتسجَّلت في دروس السمعيات الكلامية راجيةً ألا يقبلوا بي؛ لاحقاً انتقلت إلى دراسة الأدب. وعلى الرغم من شكوكي وريبتي، لم أشك قط في ما إذا كنت سأكون رسولة ناشطة أو متأمّلة. أردتُ أن أنتمي بكليتي إلى العذراء مريم (وكانوا قد قالوا لي إنَّ "الكرمل كلّه مريمي، أي هو رهبنة متعلّقة بمريم وبالمصلحة الكبيرة القديسة تريزا ليسوع").
في النهاية، دخلتُ إلى كرمل "بوينس آيرس". بقيت هناك لخمسة أشهر. وراقت لي تلك الحياة كثيراً، لكني لم أشعر أنني في مكاني الصحيح. وعندما رحلت، كانت روحي في ظلام تام ومليئة بالألم، ظناً مني أنَّ الكرمَل لم يكن إلاَّ وهمًا وليس دعوةً حقيقيةً من الله. وعلى الرغم من جهودي كلّها، لم أستطع إخراج الكرمَل من تفكيري. في تلك الأثناء، بدأ الليل بالانقشاع أكثر فأكثر، وحتى مع الكثير من الألم، بدأ السلام يحلُّ في نفسي. وهبني الرَّبّ القوَّة، وأعطاني اليقين الثابت والسلمي بدعوته. لم يدُمْ ذلك الليل المظلم إلا 3 أشهر، لكن كان عليَّ الانتظار 3 سنوات لأصل إلى برِّ الأمان. مع هذا اليقين في نفسي، طرقتُ أبواب الكرمَل في "سانتا فيه Santa Fe -" حيث لطالما شعرت بانجذاب إلى ذلك المكان. وحسبما عرفته من كلام الناس، انجذبتُ إلى فقره، وإلى أسلوبه الفطري، والحفاظ على كلّ ما للكرمَل من غِنًى وتقاليد وتراث، كالثوب، والمصبَّع، والتأمّل، وحياة الصلاة، وحياة الجماعة،... كلّه بقِيَ كما أرادت القدِّيسة تريزا لا كما يريده العالم من تطوّر، عدا الفرح الذي يملأ المكان؛ ولكن فوق كل شيء، كان الرَّبّ قد جعلني أرغب فيه، لأنّه محبَّب على قلبِهِ أماكن تمجِّده وتشكرهُ.
طلب مني أهلي أن أتسجَّل في دورات تخولني الحصول على مهنة محترفة، وأن أتخرَّج، قبل أن أحاول دخول الكرمَل من جديد. كما ظنَّت الراهبات أيضًا أنه من الحكمة أن أنتظر، وكذلك كان رأي مرشدي الروحي، الذي تبع رغبات والديَّ.
كانت دراسة التمريض هبة أخرى من الرَّبّ، بالإضافة إلى كوني إلى جانب سرير الكثير من المرضى والمحتضرين. ولكن في أي حال، كنت أذهبُ كل سنة إلى الكرمَل لأطلب منهم الدخول من جديد، ولأرى إذا كانت الراهبات قد رجعنَ في قرارهنَّ. لم تكن طاعتي مثالية جداً!
خلال فترة الإنتظار كلها هذه، كانت القصيدة التي ألَّفها الكاردينال "نيومان" قبل ارتداده هي نشيدي، وموجزة كالتالي:
"أرشد، أيها النور اللطيف، وسط الكآبة المحيطة،
هيا أرشدني!
الليل مظلم، وأنا بعيد عن البيت –
هيَّا أرشدني!
إحفظ قدميَّ، فأنا لا أطلبُ أن أرى
المشهد البعيد – خطوة واحدة تكفيني.
... ومع الفجر تبتسم تلك الوجوه الملائكية
التي أحببتها مذ ذاك، وأضعتها لفترة."
أخيراً، حصلت على شهادتي، وفي الثامن من كانون الأول، يوم عيد العذراء مريم التي حُبِلَ بها بلا دنس، استقبلتني العذراء مريم في منزلها، فكلّ أديار الكرمَل هي بيوت لمريم، كما تقول القدِّيسة تريزا. كان يسوعنا الوديع قد منحني الثبات طوال هذه السنوات، والسعادة العميقة في أن أكون ملكهُ، أن أكون عروسهُ، على الرغم من فقري. أن أكون قادرة على المساعدة، على صِغَري، لأنقذ نفوساً تملَّكت فيها آلامه، أن أساعد بالصلاة رعاتهُ وكهنتهُ والأب الأقدس والكنيسة، والكنيسة المحلية في "سانتا فيه"، وأن أساعد بلدنا الفقير والمعذَّب. ثم قالت لي القدّيسة "تريزا بنديكتا للصليب" وهي قدّيسة كرمليَّة شهيدة وعظيمة في رهبانيَّتنا:
"لستِ دكتورة، ولا ممرّضة،
لا يمكنكِ الإعتناء بالجرحى، فأنتِ محجوزة في حجرتكِ،
ولا يمكنكِ الذهاب إليهم. تسمعين صرخة المحتضرين والمكروبين،
وتتمنّين لو كنتِ كاهناً لتكوني إلى جانبهم.
انظري إلى المصلوب. بالإتحاد به،
تصبحين كلية العلم مثله... بالاتكال على قوة الصليب،
يمكنكِ أن تكوني حاضرة على جميع الجبهات، في جميع أماكن المعاناة."
آمل أن تسامحوني لأنني لم أعرف كيف أقول هذا كلّه بكلمات أقل. لتكن محسوبة شكراً على صلواتِ الكثيرين الذين أدينُ لهم بدعوتي. بدءاً بـ"جدَّتي الكبرى" جوزيفينا، وأمهاتي العزيزات في دير كرمَل "التجسُّد"، والكثير من الكهنة والأصدقاء، خصوصاً والديَّ، وأخوتي وأخواتي، وأمهاتي وأخواتي وإخوتي الكرمَليِّين في هذه الرهبانيَّة المقدَّسة التي هي هبة الله لي.
كرمليَّة فقيرة وسعيدة،
ترغبُ في أن تصبح قادرة على التغنِّي كل يوم بصوت أكثر قوةً وحماسَة،
برحمة الرَّبّ!