الزمن الميلادي حَسَبَ الطقس اللاتيني
كتابة الأب نوهرا صفير الكَرمَلي
اليَومَ أشرَقَ علينا النور، لأنَّ الرَّبّ قد وُلِدَ لنا؛ ويُدعى اسمُهُ عجيباً، إلهاً، رئيسَ السَّلام، أبَا الدَّهر: الذي لا انقِضاءَ لِمُلكِهِ.
( مِنَ الليتورجيَّا اللاتينيَّة في قدَّاس الفجر لميلاد الرَّبّ).
مقدِّمَة
الزمَن الميلادي في كنيسَتِنا اللاتينيَّة الرومَانيَّة هو زمَن ابتهاج بميلاد الرَّبّ بيننا وظهوراتِهِ الأولى. لكنَّه لا يَجوز لعناصِر ذلِكَ الابتهَاج: أمثال المغارة والمذود والطِفِل وأمِّهِ والرعاة والأناشيد الحلوة والهدايَا... أن تحوِّلَ هذا الميلاد إلى شبه عيد وثني سَطحي، وإلى أن تحجب عن فكرنا وقلبنا حقيقة السرّ: "الكَلِمَة صارَ جَسَداً وحلَّ فينا، وقد رأينا مَجدَهُ".
ولادة "المخلِّص المسيح"، تحقيقٌ لكلِّ رَجَاءْ البشَر. هو مَسيح اليَهود، ومخلِّصُ الرومَان. بهِ التقى انتظار كلّ الشعوب للخلاص الحَقّ. بحثَ الإنسَان طيلة تاريخِهِ عن وسيلة يَغلِب فيهَا الفنَاء ويَعرف فيهَا الفرَح، فأتى الله ذاته ليَدلّهُ على هذِهِ الوسيلة. فلنرافِق هذا الطِفِل في ولادَتِهِ، وطفولتِهِ، وشبَابهِ، ورسَالتِهِ، ومَوتِهِ، وقيَامَتِهِ المَجيدة. مِذود مفتوح لِمَن يريد قبول هذِهِ البُشرى وعيشِهَا وَحَملِهَا، راعِياً كانَ أم مَلِكاً. أمَامَ الطِفل الفقير، سيِّد الأسيَاد، كلُّنا أبناء الله.
تاريخيَّة الزمَن الميلادي
الزمن الميلادي زمن كنسي يبدأ عند صلاة الغروب الأولى للميلاد، وينتهي يوم عماد الرَّبّ، يوم الأحد الواقع بعد الغطاس. أوَّل احتفال بميلاد الرَّبّ يذكره التاريخ هو الاحتفال الذي أقيم في روما في الخامس والعشرين من كانون الأوَّل عام 354، على ما جاء في تقويم فيلوكالوس. لكن التحليل الداخلي لهذا التقويم يوحي بأنَّ الناس كانوا يحتفلون بعيد الميلاد في روما قبل عام 336. وكان عيد الميلاد بديلاً لعيد "الشمس التي لا تقهر" الذي كان يقيمُهُ الوثنيون قبل اهتدائهم إلى المسيحيَّة في الخامس والعشرين من كانون الأوَّل. فالمسيح هو "شمس الحبّ والحريَّة والحقّ والحياة". أقام النَّاس عيد الميلاد في إفريقيا وأنطاكيا والقسطنطينيَّة ومصر منذ القرن الرابع. أمَّا في فلسطين فقد أقاموه ما بين القرنين السادس والسابع.
في عيد الميلاد يجوز لكلِّ كاهن أن يقيمَ ثلاثة قداديس. القداس الأوَّل والوحيد كان يقيمُهُ فقط البابا في القرن الرابع في كنيسة القديس بطرس بروما. وهو اليوم قدَّاس النَّهار. القدَّاس الثاني كان يقيمُهُ البابا ليلاً في كنيسة القديسة مريم الكبرى بروما منذ القرن الخامس. فعند إعلان أمومة العذراء والدة الإله، وسَّعَ البابا سيكستوس الثالث (+446) هذه الكنيسة. وأضاف إليها معبداً يمثِّل مغارة بيت لحم، وأقامَ فيه ليلة الميلاد قداساً احتفاليّاً كبيراً، وهو اليوم قداس الليل. القداس الثالث بدأ يقيمُهُ البابا منذ منتصف القرن السادس في كنيسة قريبة من مقرّ الحكَّام البيزنطيِّين بروما فيها ذخائر القديسة أنستازيا الشهيدة، التي يقع عيدها كذلك في الخامس والعشرين من كانون الأوَّل. في هذه الكنيسة كان البابا يتوقَّف وهو في طريقِهِ من قصر اللاطران إلى كنيسة القديس بطرس بروما، تكريماً للسلطات المدنيَّة. وهو اليوم قدَّاس الفجر. واحتفظت كتب الطقوس بأجمل وأعظم نصوص لهذه القداديس البابويَّة الثلاثة. ولا يزال الكهنة يقيمونها ليلة الميلاد منذ القرن السادس، حتى يومنا هذا، تعظيماً وتكريماً للميلاد.
اللون الليتورجي
الزمن الميلادي هو زمن اتصال الأرض بالسماء، وقيام الجسر العظيم بين الله والناس. وبمولد المسيح ولدت البشريَّة من جديد، وصار الناس كلُّهُم أخوة. والناس في الأرض كلِّها يحتفلون بمولد المسيح الإله، ويتفرَّغون للعبادة والصلاة، وتصافي القلوب على المودَّة والإخاء، وتجديد الذات والحياة. وابتهاجاً بهذا الحدث العظيم المقدَّس يُستَعمَل في الطقوس، طيلة الزمن الميلادي، اللون الأبيض، كالمذبَح ومنبَر القراءات ولبَاس الكَهَنة، إلاَّ إذا وقعَ عيدٌ لشهيد مثلاً: (أطفال بيت لحم....) يُستعمل اللون الليتورجي الخاص بالمناسبة، وتزيَّن الهياكل بالورود، ويُتلى نشيد المجد لله في العلى، وتقرع الأجراس، وتُعزَف الموسيقى.
الترتيب الليتورجي الخاص بالزمَن الميلادي
أمَّا الترتيب الخاص بالزمن الميلادي فيأتي على الشكل التالي:
لميلاد الرَّبّ "ثمانيَّة" تقام على النحو التالي:
في الأحد الذي في ثمانية الميلاد، وإلاَّ ففي 30 كانون الأوَّل: عيد الأسرة المقدَّسة، أسرة يسوع ومريم ويوسف.
أسرة يَسوع ومَريَم ويوسُف تِلكَ التي نلتقيهَا في جميع الذكريَات الميلاديَّة ومَا يَليهَا. فلقد أرادَ الله أن يقدِّم، مِن ورائِهَا، مثالاً وسنداً لأسَر جميع القرون والأجيَال.
* في 26 كانون الأوَّل: عيد القديس أسطفانس، أول الشهداء ويستعمَل اللون الليتورجي (الأحمر).
* في 27 كانون الأوَّل: عيد القديس يوحنَّا، الرسول والإنجيلي. ويستعمَل اللون الليتورجي (الأبيض).
* في 28 كانون الأوَّل. عيد الأطفال الشهداء أطفال بيت لحم، ويستعمَل اللون الليتورجي (الأحمر).
* في 29 – 30 – 31 ، هي أيَّام في ثمانيَّة الميلاد.
* في 1 كانون الثاني، في ثمانية الميلاد، يقام احتفال القديسة مريم والدة الإله الدائمة البتوليَّة إحتفالاً يُذكَرُ فيه تسمية يسوع بهذا الإسم.
يناسَب أن تقام عشيَّة هذا اليَوم – وهو بدء السنة الجديدة – صلاة شكر واستغفار واستنزال لبرَكَة الله ونِعَمِهِ. وتذكُر الكنيسَة، في هذا اليَوم المقدَّس، تسميَة يَسوع بهَذا الاسِم القدّوس، ممَّا كانَ سبباً في إلغاء عيد اسِم يَسوع، وجعل قدَّاسُهُ مَا بينَ قداديس العبَادَة.
أمَّا الاحتِفال الرَّسمي الخاص بهذا اليَوم المبَارك فهو احتفال القدِّيسَة مَريَم والِدة الله الدائِمَة البَتوليَّة والفائِقة القداسَة. فلقد خصَّت مَريَم، منذُ أقدَم الأيَّام، بهذا اللقب، الذي هو أعظم ألقابهَا ومَنبَعهَا، الذي بهِ تحييهَا جميع كنائِس الله في صلواتِهَا اليوميَّة عامَّة، وفي احتِفالاتِهَا الميلاديَّة خاصة وأنَّهَا لعَادة رومَانيَّة قديمَة أن نبدأ سَنتنَا الجديدة في ظِلّ مَن ليسَت والِدة الله فحَسب، بَل أمَّنا، المبَارَكَة في النِّسَاء.
* الأحد الواقع بين 2 و5 كانون الثاني هو الأحد الثاني بعد الميلاد.
* الغطاس، أو ظهور الرَّبّ، يُحتَفَل بهِ في 6 من كانون الثاني.
احتِفال شرقيّ الأصل: ويَذكر ظهورات الرَّب، ولا سيَّمَا ظهورُهُ للأمَم، إذ جَذَبَ نورُهُ السَّاطِع بعض المَجوس ليَكونوا طلائِعَ الوثنيِّين الذينَ سيؤمِنونَ بالمَسيح، لِذلِكَ هذا العيد هو عيدُ الإيمَان الذي يَجمَعُ جميع الأمَم حولَ المَسيح المَولود، مَلِك العَالم.
* في الأحد الواقع بعد 6 كانون الثاني، يُقام عيد عماد الرَّبّ.
عيد عِمَاد الرَّب لا يُخفى على أحَد مَا لِذِكرى عِمَاد المَسيح في الأردن مِن شعبيَّة في الشرق وفي الكنيسَة. فقد كانَ هذا العِمَاد مناسَبَة لأعظم ظهور إلهي جرى في التاريخ: إذ سُمِعَ صوت الآب، وحلَّ الروح بصورة رمزيَّة منظورة على الابن في المَاء، وفي الوقت عينِهِ، قدَّسَ المَسيح مَاء النَّهر ومَاءَ العِمَاد. ويَنتهي بهذا العيد الزمَن الميلادي.
خاتِمَة
الآحَاد الواقِعَة بينَ الزمَن الميلاديّ والزمَن الأربَعينيّ المقدَّس، - هي آحَاد كانت تدعى قديماً بآحَاد بعد الغطاس وبآحَاد زمَن السَبعين. أمَّا الآن فإنَّهَا تدعى بآحَاد زمَن السَّنة، أي بالآحَاد العَاديَّة وتجدُهَا بعدَ الزمَن الفِصحيّ. على مدار السنة، تذكر الكنيسة اللاتينيَّة سرَّ المسيح الإله بكماله، منذ التجسُّد إلى يوم العنصرة وإلى انتظار مجيء الرَّب الثاني.
يَبقى التجسُّد سِرّ كِبَر وعظمَة ومَجد، لأنَّهُ يعبِّر عن محبَّة الله الكَامِلة للناس؛ فهو فخرنا وخلاصُنا الأبَديّ. نعَم، لقد تركَ كلَّ شيء وصارَ مِثلنا، لِكَي يَجعَلنا مِثلهُ في كلِّ شيء. هذِهِ هي المَحبَّة التي بطبيعَتِهَا، لا تقبَل إلاَّ أن تتنازَل فتبذُلَ ذاتهَا مِن أجل الحبيب، لِترفعهُ إليهَا.