ليتورجيّا السَّاعَات أو الفرض الإلهي حَسَبَ الطقس اللاتيني الرّومَاني
كتابة: الأب نوهرا صفير الكرمَلي
مقدِّمَة
تبدو صلاة شعب الله الرَّسميَّة والمشتركَة من بينِ مَهَام الكَنيسَة الأولى. فمنذُ البَدء، كانَ المعمَّدون يواظبون على "تعليم الرُّسُل، والمُشَارَكَة، وكسر الخبز والصلوات" (أعمَال 1: 42). ويَشهَد سفر أعمَال الرُّسُل مراراً أنَّ الجَمَاعَة المَسيحيَّة كانت تصلّي معاً.
وتفيدُنَا وثائِق الكَنيسَة الأولى أنَّ مختلف المؤمنين كانوا يَتفرَّغون للصلاة في سَاعَات معيَّنَة. . ثمَّ انتشَرَتْ، في شتى المَناطِق، عادة وقف بعض الأوقات على الصلاة. مِن ذلِكَ السَّاعَة الأخيرة مِنَ النَّهَار، عندمَا تغيب الشَّمس، ويُشعَل القنديل، أو عند السَّاعَة الأولى، إذ يَنتَهي اللَّيل، عند إشراق الشمس.
ومَعَ مرور الزمَان، جَعَلَتْ بعض السَّاعَات تُقدَّس بالصلاة المشترَكَة. وقد أخَذَ ذلِكَ يَتبيَّن للآبَاء في سفر أعمَال الرُّسُل. فهُنَاكَ نرى التلاميذ يَجتَمِعون السَّاعَة الثالثة؛ وزعيم الرُّسُل يَصعَد السَّطح نحو السَّاعَة الثالثة للصلاة (10: 9)؛ وبطرس ويوحنَّا يَصعَدان الهَيكَل لصلاة السَّاعَة التاسِعَة (3: 1)؛ وبولس وسيلا يُسبِّحَان الله عند منتصَف اللَّيل (16: 23).
سوفَ نرى مِن خلال هذا العَمَل التطبيقي البَسيط كيفَ أنَّ هذه الصلوات المشترَكَة، قد نُظِّمَت شيئاً فشيئاً، وأصبَحَتْ وحدَة مِن السَّاعَات: ليتورجيَّا السَّاعَات (أو الفرض الإلهي) القائِمَة أوَّلاً، وقد أغنِيَتْ بالقراءَات، وبالمَدائِح والدُّعَاءْ، ترفعُهَا الكَنيسَة مَعَ المَسيح وإلى المَسيح الحَيّ والقائِم مِن بين الأموات والحاضِر دائِماً في كلِّ احتِفال ليتورجي.
1 – صلاة المَسيح
1 – 1 – المَسيح يُصلّي إلى الآب
لمَّا كانَ كَلِمَة الله، الَّذي يَنبثِق مِنَ الآب، كَبَهَاءِ مَجدِهِ، قد جَاءَ يَمُدُّ البَشَرَ بحَيَاة الله، "كَاهِن العَهد الجَديد والأزليّ الأعظَم، إذ أخذَ الطبيعَة البشريَّة، نقلَ إلى منفانَا الأرضيّ هذا النشيد الذي يُنشَدُ أبداً في المَسَاكِن العلويَّة" (دستور الليتورجيا 83). ومنذ ذلِكَ الحين، يدوّي في قلب المَسيح، حَمد الله، بكَلام بشريّ مِنَ السجود والتكفير والاستشفاع، يرفعُهُ إلى الآب رأس "البشريَّة الجَديدة والوسيط بين الله والناس باسم البَشَر ولخيرهم جَميعاً".
وإنَّ ابنَ الله، الذي هو والآبُ واحِد، والذي عند دخولِهِ العَالم قال: "هَاءَنذا آتٍ لأعمَلَ بمَشيئَتِكَ، يَا الله" (إلى العبرانيين 10\ 6) قد تَرَكَ لنَا أيضاً مِثال صَلاتِهِ. فكثيراً مَا تمثِّلُهُ لنَا الأناجيل مصلِّياً: عندمَا يوحي بإرسَال الآب لهُ، وقبلَ أن يَدعو الرُّسُل، وعندمَا يَتجلَّى على الجَبَل، وعندمَا يَشفي الأصَمّ الأبكَم، وعند إقامَة لعَازَر، وقبلَ أن يعترفَ بهِ بطرس، وقبلَ أن يُعلِّمَ الرُّسُل كيفَ يَجب عليهم أن يُصَلّوا، وعند عودة الرُّسُل مِنَ الرِّسَالة، وعندمَا يُبَارك الأطفال، ويصلّي مِن أجل بطرس.
وكانَ نشاطُهُ اليَوميّ ذا صِلة بالصلاة، حتَّى يُمكِن القول أنَّهُ كانَ يَنبثِق منهَا؛ إذ كانَ يَنزوي في البريَّة أو على الجَبَل للصلاة ويقوم مبكراً، أو يَسهَر حتَّى الهَجعَة الرابعَة مِنَ الليل، مُحيِياً اللَّيل في الصلاة إلى الله
فحتَّى آخر الحَيَاة، وقد دنَت الآلام، وفي العَشَاء الأخير، وفي النزاع، وعلى الصليب، لم يَفتأ المعلِّم الإلهي يُبيِّن أنَّ الصلاة كانت تُحيي خدمتهُ المَشيحَانيَّة وخاتِمَتهُ الفصحيَّة. وفي الواقِع، فهو "الذي في أيَّامِ حَيَاتِهِ البشريَّة، رفَعَ الدُّعَاء والابتِهَال بصراخٍ شديد وبدموعٍ ذوارف إلى الذي بوسعِهِ أن يُخلِّصَهُ مِنَ المَوت، فاستجيبَ لتقواه" (إلى العبرانيِّبن 5: 7) وإذ يقدِّمُ ذاتهُ على مَذبَح الصليب، فإنَّهُ يَجعَل "المقدَّسين كَامِلين أبَدَ الدهور" (10: 15)؛ وغذ يقومُ أخيراً مشن بين الأموات، يَحيَا دائِماً ويُصلّي دائِماً مِن أجلِنَا (7: 25).
2 – صلاة الكَنيسَة
2 – 1 – وصيَّة الصلاة
إنَّ يَسوع قد أوصَانا بمَا كَانَ يَصنَع هو. فقد قالَ مراراً: "صلّوا، واسألوا، أطلبوا باسمي". ولقد علَّمَنَا أيضاً الصلاة المعوَّة الربيَّة، وأنَّ الصلاة ضروريَّة، وأنَّهُ يَجب أن تكون متواضِعَة، وسَاهِرَة، وثابتة، وواثِقَة بعطف الآب، وصافية النيَّة، ومناسبَة لطبيعَة الله.
ثمَّ إنَّ الرُّسُل، وقد أودِعوا رسَائِلَهُم بعض الصلوات، وخصوصاً صلوات الحَمد والشكر، فإنَّهُم يحثّوننا على الصلاة المقامَة إلى الله في الروح القدس بالمَسيح، بإلحَاح وثَبَات، ويَتَكلَّمون على قوَّة فائِدَتِهَا للتقديس، وعلى صلاة الحَمد والشكر، والطلب، والشفاعَة لأجل جَميع الناس.
2 – 2 – الكَنيسَة تواصِل صلاة المَسيح
لمَّا كانَ الإنسَان بكَماله مِن الله، وَجَبَ عليهِ أن يعرف ويَشهَد سُلطانَ خالقِهِ عليه. وهذا مَا كانَ قد قامَ بهِ جميع الأتقيَاء، في جميع الأزمِنَة، إذ تفرَّغوا للصلاة. فإنَّ الصلاة التي تُرفَع إلى الله، يَجب أن تتَّحِد بالمَسيح، ربّ جميع النَّاس والوسيط الأوحَد لنا بهِ وحدهُ سبيل إلى الله (أفسُس 2: 18)، فإنَّ المَسيح يَضُمّ إليه جَمَاعَة البشَر كلها مِمَّا يقيم صلة وثيقة بين صلاتِهِ وصلاة كلّ الجنس البَشَري. إذ فيهِ، وفيهِ وحدهُ، تُدرك الديَانَة البشريَّة قيمَتَهَا الخلاصيَّة وتبلغ غايَتَهَا.
وتقوم صلة خصوصيَّة ووثيقة جداً بين المسيحِ وأولئك الذين جعلهم قبول سرّ الميلاد الجديد أعضاء لجسدِه، أي الكنيسة. فعلى هذا المنوال، تفيضُ من الرأس على جميع الأعضاء جميعُ أصناف الغنى التي هي للإبن، التي هي شركة الروح القدس والحق والحياة والاشتراك في بنوَّة المسيح الإلهيَّة، تلك التي كانت تتجلّى في صلاتِه عندما كان في أوساطِنا.
حتى كهنوت المسيح فإنه موضوع اشتراك جسد الكنيسة فيه. وهذا مَا يجعل المعمَّدين يتكرَّسون بالميلادِ الجديدِ ومسحةِ الروحِ القدس، ليكونوا مسكناً روحيّاً ومسكناً مقدّساً، يصيرُ أهلاً لعبادةِ العهدِ الجديدِ التي لا تصدُرُ من قِوانا، بل من استحقاقِ المسيحِ وعطائِه.
قال القدّيس أغسطينوس: "لا يمكن الله أن يهبَ للبشر عطيّةً أعظمَ من هذه: أن يجعلَ عليهِم رأساً هو الكلمةُ الذي فيه خلقَ كلُّ شيء، وأن يجعلهم أعضاء له بنوع أنه يكون ابن الله وابن الإنسان، إلهاً واحداً مع الآب وإنساناً واحداً مع البشر. وهكذا فعندما نخاطبُ الله بالصلاةِ، لا نفصل الإبن عن الآب؛ وعندما يصلّي جسد الإبن لا يفصل عنه الرأس أي المخلّص الواحد، يسوع المسيح إبن الله الذي يصلي من أجلنا، والذي يصلّي فينا، والذي نصلّي إليه. يصلّي من أجلنا بصفة كونه كاهننا. ويصلّي فينا بصفة كونه رأسَنا. وإليه نصلّي بصفة كونه إلهنا. فلنعرف إذاً أصواتنا، وأصواته فينا".
في هذا إذاً تقوم منزلة الصلاة المسيحيّة التي تشترك في تقوى الإبن نحو أبيه، وفي الصلاة التي يرفعها ذاك أيام حياته الأرضية بكلامه، والتي ما زال الآن يواصلها باسم الجنس البشريّ كله ولخلاصه في الكنيسةِ بأجمعِها، وفي جميعِ أعضائِها من غيرِ انقطاع.
2 – 3 – عمل الروح القدس
أمّا وحدة الكنيسة المصلّية، فهو عمل الروح القدس، الذي هو وحده في المسيح وفي الكنيسة كلِّها وفي كلِّ من المعمَّدين. فإنَّ "الروح يأتي لنجدة ضعفنا ويشفع لنا بأنّات لا توصف" (رومة 8: 26)، على أنّه روح الإبن يفيض فينا "روح تبنِّ، به ننادي أبّا، يا أبتِ" (رومة 8: 15). وعليه ما من صلاة مسيحية يمكن رفعها من غير فعل الروح القدس، الذي إذ يُوحِّد الكنيسة بكمالها، يقودها بالإبن الى الآب.
2 – 4 – صفات صلاة الجماعة
ولذلك فإنَّ مثال الرَّبِّ والرُّسل ووصيَّتهم، يجب أن يُتَّخذ دائماً ومن غير انقطاع قاعدة للصلاة، ولكن لا لصلاة قانونية لا غير، بل لصلاة متأصلة في جوهر الكنيسة عينها التي هي جماعةً والتي عليها أن تُعرب، في صلاتها، عن طابعها الجماعي. فهكذا في سفر أعمال الرسل، حيث يدور الكلام لأول مرة على جماعة المؤمنين، وتبدو لنا هذه ملتئمة على الصلاة "مع النسوة ومريم ام يسوع وأخوته". (أعمال 1: 14) "وكان جماعة الذين آمنوا قلباً واحداً ونفساً واحدة"( أعمال 4: 32) يتغذّون بكلام الله والمشاركة الأخويَّة والصلاة والإفخارستيا.
ولو كانت الصلاة التي تُرفع في الخفية والباب مُغلق ضرورية دائماً، ويوصي أعضاء الكنيسة برفعهَا بالمسيح في الروح القدس، فإنَّ لصلاة الجماعة منزلة خصوصيَّة. قال المسيح: "حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، كنت هنالك بينهم". (متى 18: 20)
- ممارسة مهمة المسيح الكهنوتيّة
3 – 1 – في ليتورجيا الساعات
إنَّ العمل الذي تمَّ به الفداء البشري وتمجيد الله الأكمل، يمارِسُه المسيح في الروحِ القدسِ بالكنيسةِ لا عند إقامةِ الإفخارستيا ومنح الأسرار فحسب، بل، وهذا في مختلفِ الوسائلِ، ولا سيّما القيام بليتورجيا الساعات. فالمسيح حاضر فيها عندما تحضر الجماعة للصلاة، وعندما تعلن كلمة الله وعندما تصلي الكنيسة وترتّل.
3 – 2 – تقديس الإنسان
هكذا يتِمُّ تقديس الإنسان، وتمارَس العبادةُ لله، في ليتورجيا الساعات، بنوع أنه ينشأ فيها شبه تبادل أو حوار بين الله والبشر، به يخاطبُ الله شعبَه والشعبُ يجيبُ الله بالأناشيدِ والصلاة.
في وسع الذين يشتركون في هذه الليتورجيا أن يستقوا منها فائدةً وافرةً جداً لتقديس النفس، وذلك بما لكلمة الله الخلاصية من مكانة. فمن الكتاب المقدس التلاوات المقدسة، ومن كلام الله الذي يرتل في المزامير بين يديه ومن وحيه ودفقه، تنهل الصلوات والأدعية والأناشيد الطقسية.
لذلك ليس فقط عندما يقرأ ما كُتبَ لتعليمنا، ولكن عندما تصلي الكنيسة أو ترتّل، يُغذَّى إيمان المشتركين وترتفع النفوس إلى الله، لكي تؤدّي له الإكرام اللائق وتتقبّلُ نعمه بغزارةٍ أوفر.
3 – 3 – تسبيح الله مع الكنيسة السماوية
إنَّ الكنيسة، في ليتورجيا الساعات، تقوم بمهمة رأسها الكهنوتية من غير انقطاع، مقدّمة لله قربان التسبيح، أي ما تلفظه الشفاه مسبّحة لاسمه. وهذه الصلاة إنّما هي صوت العروس نفسها تخاطب العريس، أو صلاة المسيح مع جسده الى الآب. وهكذا فإنَّ جميعَ الذين يقومون بهذه المهمة ينجزون ما تفرضه الكنيسة، ويشتركون في الشرف الأسمى الذي للمسيح العروس، لأنّهم بتأديتهم المدائح الإلهية، يقفون أمام العرش باسم الأمّ الكنيسة.
وإنّ الكنيسة، في رفعها الحمد لله في صلاة الساعات، تشترك في ذلك النشيد الذي ينشد أبداً في المساكن العلوية وتتذوَّق ذلك المديح الذي يصفه يوحنا في رؤياه، والذي يدوّي دائماً أمام عرش الله والحمل. ويتحقق هذا الاتحاد الوثيق بكنيسة السماء، عندما نُشيد في فرح مشترك بحمد الجلال الإلهي كلُّنا، وقد اشتُرينا بدم المسيح، من كلَّ قبيلة وكل إنسان وكل شعب وكل أمة نمجِّد مجتمعين. في الكنيسة الواحدة الله الواحد في ثلاثة أقانيم بنشيد حمدَ.
وقد سبق الأنبياء ورأوا هذه الليتورجيا السماوية في انتصار النهار من غير ليل ، والنور من غير ظلام: "لا تكن الشمس من بعد نوراً لك في النهار، ولا يُنيرك الليل بضيائه في الليل، بل الربّ يكون نوراً أبدياً" (أشعيا 6: 19). ويكون يوم واحد وهو معلوم عند الربّ ولا يكون نهار ولا ليل، بل يكون وقت المساء نور (زكريا 14: 7) فإنما بلغنا منتهى الأزمنة. وتجد العالم قد حصل على غير تراجع وَوَقَعَ، في هذه الأيام الحاضرة، وهكذا فبالإيمان يُفهمنا معنى الحياة الدنيا ايضاً كي ننتظر مع سائر الخلائق تجلي أبناء الله. وفي ليتورجيا الساعات، نعلن هذا الإيمان، ونعرب عن هذا الرجاء ونغذي فرح التسبيح، ونشترك، نوعاً ما، في ذلك اليوم الذي لا غروب له.
3 – 3 – الصلاة والشفاعة
وإنَّ الكنيسة في الليتورجيا، إلى جانب تسبيح الله، تنقل تمنيَّات جميع المسيحيِّين وآمالهم. وتدعو المسيح أيضاً من أجل العالم كله، وبالمسيح تدعو الآب. وليس هذا الصوت صوت الكنيسة وحدها بل صوت المسيح أيضاً، إذ ترفع الصلوات باسم المسيح: "بربنا يسوع المسيح". فإن الكنيسة ترفع ذلك الدعاء والابتهال اللذين رفعهما المسيح أيام حياته البشرية، واللذين، بسبب ذلك، لهما فعل فريد، وهكذا فإنَّ الجماعة الكنيسيَّة، لا بالمحبَّة والمثال والاعتكاف على أعمال التوبة فقط، بل بالصلاة أيضاً تُمارس أمومة حقاً في قيادة النفوس إلى المسيح.
ويعود هذا الأمر خصوصاً إلى جميع الذين تمَّت دعوتهم بإسناد خصوصي الى القيام بليتورجيا الساعات، أي الأساقفة والكهنة والشمامسة الذين عليهم، بقوة واجبهم، أن يصلّوا من أجل شعبهم، ومن أجل شعب الله كافة، والرهبان أيضاً.
3 – 4 – قمة العمل الرعوي ومنبعه
إنَّ الذين لهم حصَّة في ليتورجيا الساعات يُغنُون إذاً بخصب رسولي شعبَ الربّ. فإلى هذا تهدف جميع الجهود الرسوليَّة: أن يلتئم جميع الذين أصبحوا بالإيمان والمعمودية أبناء الله، ويسبِّحوا الله في وسط الكنيسة، ويأكلوا فصح الربّ.
هكذا بعبّر المؤمنون بسيرة حياتهم، "ويفصحوا للآخرين عن سرِّ المسيح. وأصالة طبيعة الكنيسة الحق، التي تمتاز بكونها منظورة وحافلة بحقائق غير منظورة جادّة في العمل ومسترسلة إلى التأمل، وحاضرة في العالم مع أنها عنه نازحة".
ومن جانب آخر فإنَّ تلاوة ليتورجيَّا الساعات وصلواتها منبع للحياة المسيحية. فإنَّ هذه الحياة تتغذى على مائدة الكتاب المقدس وأقوال القديسين، وتُشدِّدُ بالصلوات، لأنَّ الربّ الذي بغيره لا تستطيع شيئاً يقدر أن يمهر العمل الذي يعملون بالفاعليّة والنماء، بنوع أننا نبني يومياً هيكلاً للرب، حتى نبلغ القامة التي توافق سعة المسيح (أفسس 4: 15) وتحصِّن قوانا في تبشير الذين هم في الخارج.
3 – 5 – تناغم الذهن والصوت
وإذا ما أردنا أن تكون هذه الصلاة صلاة كلّ من الّذين يشتركون فيها، منبعاً للتقوى والنعمة الإلهية المتنوعة، وغذاء للصلاة الشخصية والجهد الرسولي، لزم أن يكون تناغمٌ بين الذّهن والصوت، عند أدائها بمهابة وانتباه وخشوع وليسهِموا جميعاً مع النعمة العلوية، لئلا يقبلوها سدىً. وفي بحثهم عن المسيح وإمعانهم بالصلاة أكثر فأكثر في سرِّه، ليحمدوا الله ويرفعوا إليه الأدعية بذلك الروح الذي به يصلّي الفادي الإلهي.
4- الذين يحتفلون بليتورجيا الساعات
4 – 1 – في الإقامة الجماعية لليتورجيا
وأخيراً يجب في نطاق الأسرة، على أنها شبه كنيسة صغيرة، عدم الاقتصار على رفع الأدعية المألوفة بل تلاوة قسم من ليتورجيا الساعات. بذلك تندمج الأسرة في الكنيسة اندماجاً أوثق.
4 – 2 – إسناد الاحتفال بليتورجيا الساعات
يمثِّل الأسقف شخص المسيح على نحو رفيع. إنه كاهن رعيّته الأكبر، الذي تصدر عنه وتتعلق به نوعاً ما حياة المؤمنين في المسيح. وبين جميع أعضاء الكنيسة، عليه أن يكون الأول في الصلاة، وصلاته بتلاوة ليتورجيا الساعات تتم دائماً بإسم الكنيسة، ومن أجل الكنيسة الموكولة إليه.
والكهنة، في اتحادهم بالأسقف، وسائر الهيئة الكهنوتيّة. يمثّلون أيضاً شخص المسيح الكاهن على نحو خصوصي، ويشتركون في المهمة عينها، عندما يصلُّون من أجل الشعب الموكَل إليهم وحتّى من أجل العالم كلّه.
إنّ هؤلاء بأجمعهم يقومون بواجب الراعي الصالح، الذي يدعو من أجل ذويه لكي تفيض فيهم الحياة ويكونوا واحداً. وفي ليتورجيا الساعات التي أسندت الكنيسة إليهم تلاوتها، فليجدوا ينبوع تقواهم وغذاءً لصلاتهم الشخصية. وإلى ذلك، فليلتمسوا من فيض التأمل أن يغذّوا ويسندوا نشاطهم الراعوي والإرسالي، فيولوا كنيسة الله بأجمعها تعزية وتشجيعاً.
فليخصصوا قبل كلَّ شيء الساعات التي تُعَدَّ شبه ركيزة لهذه الليتورجيا، أي صلاة السحر والغروب بمنتهى الأهمية، وليعنوا بألاَّ يتركوا هذه الصلاة إلاّ لأسباب مهمة جداً.
وليعنوا أيضاً بتلاوة فرض القراءة بأمانة، ذلك الفرض الذي هو بمثابة الاحتفال الليتورجي بكلمة الله. بذلك يقبلون كلمة الله مُتممين يومياً هذا الواجب الذي به يصبحون تلاميذ أكمل للرب، ويدركون بعمق أعظم غنى المسيح.
وليقدسوا النهار بكماله مهتمين بتلاوة صلاة الساعة الوسطى وصلاة النوم التي بها يتمون واجب الله كاملاً ويكلّون أنفسهم إلى الله.
أفراد هذه الهيئات عليهم، إلى جانب الساعات التي من واجب جميع خدم الأمور الروحية أن يقوموا بها، أن يتلوا أيضاً وحدهم تلك الساعات التي يقام بها في دائرتهم.
أما الرهبانيات الملتزمة بالخورس، فعليها أن تتلو الساعات كاملة ويومياً في الخورس، وخارج الخورس على أفرادها تلاوة الساعات بفعل قانونها الخاص، مع الحفاظ على مضمون الرقم 29.
4 – 3 – بنية الاحتفال.
وسواء أكان في الاحتفال المشترك أم في التلاوة الفردية، تقوم بنية هذه الليتورجيا على الحوار بين الله والإنسان. بيد أنَّ الاحتفال المشترك يبيّن بنوع أجلى الطبيعة الكنسية التي لليتورجيا الساعات، وتشجِّع كلَّ أحد على الاشتراك الفعلي بواسطة الهتافات والحوار وتلاوة مترادفة للمزامير وغير ذلك. وفيها تعبير أفضل عن مختلف أنواع الاحتفال. وعليه، فكلما تم الاحتفال المشترك بإسهام من الشعب، فإنَّه يفضَّل على الاحتفال الفردي وشبه الخاص. وإلى ذلك، يناسب ترتيل الفرض على وفق طبيعته، وعلى وفق كلَّ قسم منه ومختلف أجزائه في الخورس وبنوع مشترك بحسب الظروف.
هكذا تتحقق أخيراً وصية الرسول القائل: "لتنزل فيكم كلمة المسيح وافرة، لتعلِّموا بعضكم بعضاً، وتتبادلوا النصيحة بكل حكمة. رتِّلوا لله من صميم قلوبكم، شاكرين بمزامير وتسابيح وأناشيد روحية: (قولسي 3: 16).
خاتِمَة
مِن قلب المَسيح تستمد صلاة ليتورجيَّا السَّاعَات وحدتهَا. وقد أبَى ربُّنَا ومخلِّصُنَا يَسوع المَسيح إلاَّ أن تكمِّل الكَنيسَة، جسده السرِّي، على مَرِّ القرون، تلكَ الحَيَاة التي خصَّهَا هو بصلواتِهِ وذبيحتِهِ أيَّام سُكناه بَينَنا، وعلى هذا المنوال، أصبَحَت صلاة الكَنيسَة الدُّعَاء الذي يَرفعُهُ المَسيح وجسدُهُ إلى الآب، والَّذي فيهِ يَمتزج صدى أصواتِنَا بصدى صوت المسيح، وصدى صوت المَسيح بصدى أصواتِنَا.
وإذا مَا شئنا أن يَتجلَّى طابع صلاتِنَا هذا تجلَّياً أعظم، فإنَّهُ لا بُدَّ مِن أن يَنتعِشَ في جميع النفوس الولع العذب والحَيّ بالكتاب المقدَّس؛ ذاكَ الذي توصي بهِ ليتورجيَّا السَّاعَات، والذي يَجب أن يَكون المَنبَع الرَّئيسي لكلّ الصلاة المَسيحيَّة.
المراجع: