لماذا يُعرف الأربعاء العظيم المقدَّس ب"أربعاء أيوب" في الليتورجيا المارونيَّة،
وما هي رموز رتبة القنديل؟
كتابة الأب نوهرا صفير الكرمَلي
• لماذا يُطلق على هذا اليوم الثالث من الأسبوع المقدَّس الذي يسبق الخميس العظيم تسمية "أربعاء أيوب"؟
تتأمل الكنيسة السريانيَّة المارونية ب"أيوب الصدِّيق” في هذا اليوم تحديدًا، الذي باتَ مثالاً يُحتذى بهِ في الصبر، والإيمان بالله الحيّ، وبالأمانة له، هو الذي تحمّل أوجاعه وآلامهُ: "عريانًا خرجتُ من بطن أمّي، وعريانًا أعودُ إليه. الرَّبّ أعطى والرَّبُّ أخذ، فليكن اسم الرَّبّ مباركًا."
وفي هذا اليوم نفسه، تتأمل الكنيسة المارونيَّة بالحكم على الرَّبّ يسوع، ومن هنا يكون يوم الأربعاء المقدَّس، يوم صوم وقطاعة في أيام السنة كلّها ما عدا زمن القيامة المجيدة، لِما يحملُ في شأنه عظمة يوم الجمعة العظيمة المقدَّسة، يوم الفداء والحبّ الكبير.
وما نتأمَّلهُ في شخصيَّة أيوب الصدِّيق وحياة ربّنا وإلهنا ومخلِّصنا يسوع المسيح، هو قاسمٌ مشترك، ألا وهو الآلام والعذاب، والصبر والإنتصار.
إنَّ تجربة أيوب الصدِّيق قد وقعت بسبب حسد الشيطان له، وكذلك آلام المسيح قد حدثت بإيعاز من الشيطان، الذي دخل في قلب يهوذا الإسخريوطي الذي باعَ معلّمه بثلاثين من الفضَّة، عدا الذين دانوا الرَّبّ وطلبوا صلبهُ، وهم الذين هتفوا بالهوشعنا يوم دخوله إلى أورشليم حاملين سعف النخل وأغصان الزيتون.
إنَّ أيّوب الصدّيق قد جُرِح من أصحابه الثلاثة، أمّا الرَّبُّ يسوع، فقد سلّمه يهوذا إلى أيدي الكتبة، وهو أحد تلاميذه القائل: "هَل أنا هو، رابِّي؟"، وهو السؤال الذي طرحهُ هذا الخائنُ على المُعلِّمَ الإلهي، الذي كان قد أعلن قبل قليل "الحَقَّ أقولُ لكُم: أنّ واحدًا منكُم سَيُسلِمُني!". !". وكان جوابُ الربّ قاطعًا: "أَنتَ قُلت!" (متى 26/14-25).
إنَّ ترنيمة الأربعاء المقدَّس في صلاة الحاش الماروني تقول:
- مَحفِلُ الرؤساءِ في يوم الأربعاء في صهيونَ، حُكمُهم يُبْرَمْ!
- "حَسبُنا أن يموتَ واحِدٌ عن شعبنا ولا نرى شَعبَنا يُحطَمْ"
- غرَّروا بيَهُوذا ثَلاثينَ أَعطَوهُ مِن فِضَّةٍ ثَمَنًا لِلدَّمْ!
- خَانَ مَن نالَ منهُ فيضَ حُبٍّ، رَبَّهُ، كيرياليسون باعَ بالدِّرهَمْ!
رمز يوم الأربعاء العظيم في الليتورجيا المارونيَّة، محورها "القدّوس بين الخطأة" الذين أحبّهم وطيَّب حياتهم وقدَّسها بموته على خشبة الصليب. وفي قصَّة أيّوب مثالاً لتخطِّي الآلام والمِحَن التي تعترضنا في عيشنا بالإيمان بالله المحبَّة والرَّحمة، والأمانة لهُ. والحلّ لا يمكن أن يكون إلاَّ في الإيمان الثابت على ضوء آلام الرَّبّ الخلاصيَّة، وضوء قيامتهِ المقدَّسَة والمجيدة.
بالتأمّل في آلام أيّوب، ومحنِهِ الشديدة، نراه يتوجَّهُ إلى كلٍّ منَّا قائلاً: "أنقبَلُ الخير من الله ولا نقبلُ منه الشرّ؟" (أيوب 2 \ 1 – 13). وفي جواب أيّوب هذا، صار مثالاً يُحتذى بهِ، ومثالاً لكلِّ بارٍّ متألّم يُحِبّ الله، ولكلّ متروك، وحزين، ومهمَّش، ومهان...، ويسوع المعلِّم قد علَّمنا في آلامِهِ الطوعيَّة كيفَ أنَّ الألم حتى الموت هو فعلُ محبَّة لا أعظم منها. هو نفسه الذي قال أن «ما من حب أعظم من هذا، أن يبذل الانسان نفسه في سبيل أحبائه» (يوحنا 15:13) وهذا ما كان.
إنَّ تجربة أيوب قد انتهت بالخير، وردّ له الله كل ما كان له أضعافًا، وكذلك يسوع الرَّبّ والمخلِّص، قد انتهى صلبه وموته لا بالمكوثِ عند القبر وبالبكاء والنَّوح، بل بعظمةِ ومجدِ قيامته المقدَّسة من بين الأموات، والذي بقيامته وهَبَ الحياة للذينَ في القبور، وبخلاص العالم أجمع.
• ما هي رُتبة مباركة الزيت، والمعروفة ب"رُتبة القنديل"؟
في هذا اليوم العظيم، تُحيي الكنيسة المارونيَّة المقدَّسَة، رُتبة مباركة الزيت، والمعروفة ب"رُتبة القنديل" وبهذا الزيت تُمسح جباهُ المؤمنين أثناء الرتبة والقدَّاس الإلهيّ، والمرضى بزيارتهم ومسحهم، والزيتُ هنا يرمز إلى التوبة والشفاء والتشجيع.
علمًا أنَّ هذه الرتبة كانت في السابق "سرّ مسحة المرضى"، حيث يُمسح المؤمنون بالزيت الذي يرمز إلى الشفاء والتشجيع والنور. واليوم فإنَّ تقديس الزيوت المقدَّسَة هي مرتبطة مباشرةً بالسيِّد البطريرك ويوزّعه على الكهنة، وبدورهم يحملونه إلى رعاياهم والدخول به بتطواف ليتسنَّى لأبناء رعيَّتهم، معرفة وفهم هذه الزيوت المقدَّسة، ودورها، ومكانتها المقدَّسَة في أسرار الكنيسة.
اليَوم لم يعد تكريس الزّيت إلى جانب المريض ضروريًّا لأنَّ زيت المسحة مرتبطة كما قلنا في السابق، بالبطريرك فقط. أمَّا رتبة القنديل، فأبقت عليها الكنيسة المارونيَّة يوم الأربعاء العظيم، لينال المؤمنون الدّهن بزيت التوبة.
في السَّابق، كانت الرّتبة مؤلّفة من سبع "قَومات" (القَومة تشتمل على: مزمور، حساية، مزمور قراءات، قراءة من العهد القديم، وأخرَى من الرّسائل، وأخرى من الإنجيل، وصلاة ختام) وفي نهاية كُلّ قَومة تُشعَل فتيلة من الفتائل السّبعة للقنديل. واليَوم قد اختُصِرَت هذه القَومات لأنَّها كانت تأخذ وقتًا طويلاً، لتصبح قومَة واحدة، يتبعها سبعُ طلباتٍ في نِهاية كُل طلبة، تُشعَل فَتيلة من القنديل.
• ما هي عناصر رتبة القنديل ورموزها؟
أوَّلاً القنديل: هو يتكوَّن من عجينة مصنوعة من طحين الذّرة، أي عجينة جافَّة، وقليلة التّماسُك، تخترقها سَبعُ فتائل وتطوف على كميّة من الزّيت.
العجينة: ترمز إلى جسد أيوب المريض.
الزيت: يرمز إلى بحر المراحم التي هي من الله.
الفتائل السبعة: ترمز إلى عطايا الروح القدس التي تُساعد المريض المُتَألِّم على احتمال أوجاعهِ وحَملهَا برجاء: الحكمة، الفهم، المشورة، القوّة، العلم، التّقوى، الحقّ.
إشعال الفتائل: كما أنّ الرّوح ينزل كالنّار الآكلة ويُحَوِّل ويُبَدِّل داخل الإنسان، كذلك يَتلو الكاهن طلبة، فيأتي أحد المُؤمنون ويُشعل فتيلة. وعندما تنتهي الطِّلبات وَتُشعَل الفتائل السَّبعة، يَستدعي الكاهن الرّوح القُدُس على الزّيت.
• وضع اليد والدّهن بالزيت المبارك
بعدها يأخذ الكاهن من الزيت الذي تحت القنديل، ويضع فيه إبهامه، ويتقدّم المُؤمنون فيضع الكاهن يده على رأس كل مؤمن ويدهن بإبهامه جبهته بالزيت، ويقول للمؤمن أنَّ ذلك لصحَّةِ نفسهِ وجسدهِ. هذه الرُّتبة تنتهي بكلمة رحمة من الرَّبّ الإله على لسان الكاهن: "لِغُفرانِ ذُنوبِكَ وَتَركِ خَطاياك وَصِحَّةِ جَسَدِكَ وَنَفْسِكَ".
• ما هي رسالة القدِّيس يعقوب في هذه الرتبة؟
رسالة القديس يعقوب (يع5: 13-18) في هذه الرّسالة تحملُ إرشاداتٍ، تساعد المؤمن على البقاء في علاقة قويّة وصادقة بالله حتى في الأوقات الأكثر صعوبة، وفي الأوقات الأكثرَ رخاءً. ويحمِّلنا أيضًا وصيَّةً بالصَّلاة في وقت الضِّيق، وبالتسبيح في وقت الفرح.
يدعو يعقوب بذلك إلى ـ"صلاة الإيمان"، ومفاعيلها هي:
- الشفاء.
- الغفران.
- الإعتراف بالخطايا.
- الصلاة لبعضنا البعض.
تدعونا رتبة القنديل في صلواتها وقراءاتها ونصوصها يوم الأربعاء المقدَّس، أن ندخل من خلالها في علاقة محبّة ورحمة مع القريب على مِثال السّامري الصَّالح، فنعرف وندرك أنَّ هذا الزيت المبارك الذي نُدهَن منه على جباهنا هو علامة توبة ورجوع إلى الله والذات، وعلامة على عطيَّة الله الكبيرة لنا... وعلينا أن نعيش ونتقاسم هذه العطيَّة بزيت المحبَّة في عيشنا مع القريب المتألِّم والمَجروح.