القدَّاس الإلهيّ بحَسَب الطقس اللاتيني – المَنحَى الرِّعَائي
كتابة الأب نوهرا صفير الكرملي
"إنَّ عَمَلَ فِداء البَشَر، وتمجيد الله تمجيداً كامِلاً، قد أتمَّهُ المَسيحُ الرَّبّ خاصة بالسِرّ الفِصحي، أي سرّ آلامِهِ المقدَّسَة وقيَامَتِهِ مِن بين الأموات وصعودِهِ المَجيد إلى السَّمَاء. وفي هذا السِرّ الفِصحيّ، حطَّمَ المَسيح مَوتنا بمَوتِهِ، وجدَّدَ حَيَاتنا بقيَامَتِهِ". (مِنَ المَجمَع الفاتيكاني الثاني في الليتورجيَّا المقدَّسَة)
مقدِّمَة
يحتلّ القدّاس الإلهي المركز الأوَّل والأبرَز في حياة الإنسَان المسيحي المؤمن، إذ تدعو الكنيسة المقدَّسَة أبناءَهَا المؤمنين إلى إشراك الله في حياته وذلِكَ مِن خلال المشَارَكَة في القدَّاس والإحتفالات الليتورجيَّة، فكما يتحوّل الخبز والخمر إلى جسد ودم سيِّدنا وإلهُنا وربُّنا يسوع المَسيح، كذلك الذبيحَة الإلهيَّة تدعو الإنسان إلى أن يتحول إلى ما هو على مثال الإبن الوحيد، إذ تعده بشكل دائم إلى ولادة جديدة في المَسيح "من لم يولد من الماء والروح لا يدخل ملكوت السماوات" (يوحنا 5:3). وكأنَّ حضورنا واشتراكنا في الذبيحَة الإلهيَّة هو تذوق مسبق لملكوت الله. يَدعو القدّيس غريغوريوس النزينزي القدّاس الإلهي ب "ذبيحة القيامة" ويدعوه أيضاً نيقولا كباسيلاس "أيقونة التدبير الخلاصي"، يُقسَم القدّاس الإلهي إلى جزأين: خدمة الكلمة، خدمَة القرابين، (التناول).
تتميَّز الليتورجيَّا بأنَّهَا عَمَل جَمَاعي وراعوي مقدَّس بامتيَاز، فهَذا العَمَل هو مَظهَر مِن مَظاهِر الكَنيسَة السَّاجِدَة والشاكِرَة لله في المَسيح يَسوع. يوحِّد هذا اللِّقاء الليتورجي والجَمَاعي الجَمَاعَة المؤمِنَة المجتَمِعَة ويقدِّس عَمَلهَا ورسَالتَهَا الرَّاعَويَّة في قلب الكَنيسَة.
أوَّلاً: القدَّاس الإلهي بحَسَب الطقس اللاتيني:
1– 1 أقسَام القدَّاس:
يَحتَشِد شعبُ الله معاً للقدَّاس أو عَشَاء الرَّبّ، برئاسَة الكَاهِن الذي يُمَثِّل المَسيح، مِن أجل إقامَة ذكرى الرَّبّ أو الذبيحَة الإفخارستيَّة. وفي هذا الاجتِمَاع المَحَلّي للكنيسَة المقدَّسَة، تحقيق كريم للوَعد الذي قطعهُ المَسيحُ قائِلاً: "حيثُمَا اجتمَعَ اثنان أو ثلاثَة باسمي، كنتُ هناكَ بَينَهُم" (متى 18: 20).
عندَ إقامَة القدَّاس، وهو تخليد أكيد لذبيحَة الصليب، يكون المَسيح حاضِراً فعلاً في الجَمَاعَة المجتَمِعَة باسمِهِ، وفي شخص خادم الرَّبّ، وفي كَلِمَتِهِ، ويَكونُ حاضِراً حقاً في الخبز والخَمر حضوراً جَوهريّاً.
يقومُ القدَّاس من جزئين: خِدمَة الكَلِمَة، وخِدمَة القرابين. والجزءَان مترابِطان ترابطاً وثيقاً، ويكوِّنان فعلاً واحِداً. ذلِكَ لأنَّ القدَّاس يُعدُّ للمؤمنين مَائِدَة كَلِمَة الله وجَسَد المَسيح. وعلى هذه المَائِدَة يُعَلَّم المؤمنون ويُغذَّون. ومنَ المَراسيم مَا يَفتَتِحُ القدَّاس. ومنهَا مَا يَختَتِمُهُ. إنَّ خدمة الكلِمة وخدمة القُربان التي عليهما تحتفل الكنيسة بالفصح المقدَّس، إذ تشترك في سرّ تجسّد الرَّب وحياته وآلامه وموته وقيامته وصعوده إلى السماء ومجيئِه الثاني بالمجد. وفي إطار سرّ التدبير هذا، تقدّم الكنيسة القربان وأبناؤها يتقدّمون من المائدة المقدّسة لِتَناوُل جسد المسيح ودمه، مُعلِنين قيامته المَجيدَة من بين الأموات.
1 – 2 العمق اللاهوتي والكتابي مِن خلال نصوص القدَّاس:
تحتوي نصوص القدَّاس المُمتَدّة على مدار السنة الطقسيّة الإرث اللاهوتي والغِنى الروحي الذي يغذّي وينمّي كنيسة المسيح وهي في مسيرتها نحو ملكوت الآب. هذه النصوص تضمّنَت وضمَّنت هذا اللاهوت، وغَذّت أجيالاً طويلة من الروحانيّة الكتابية في عهديهَا القديم والجَديد. لا شكّ أن هذه النصوص وضَّحَت مَعالِم الطريق ونَضَّجَت العَناصِر الليتورجيَّة والرعويَّة. تتأصَّل الليتورجيَّا اللاتينيَّة في الكتاب المقدّس، ويحتلّ المَكَانة المميَّزة، في عهديه القديم والجديد، فهو المركز الأساسيّ فيها، حتّى أنَّهُ من الصعب فصل النصّ الليتورجيّ عن النصّ الكتابيّ، فلا ليتورجيَّا بدون كتاب مقدّس. إنَّ الإحتفال الطقسيّ يشكّل المَكَانَة الكنسيّة المميَّزة لقراءة "كلمة الله" وإعلان "البشرى".
إنَّ الليتورجيّا اللاتينيَّة الرومَانيَّة، في عمق لاهوتها، بيبليّة، وللكتاب المقدّس مكانة جَوهريَّة فيها.
تصلّي الكَنيسَة اللاتينيَّة في ليتورجيَّتِهَا الكتاب المقدّس، وتفكّر فيه، وتتأمّله، وتفسّره، وتوزّعه زاداً على جَمَاعَة المؤمنين، وتجعل منهُ ينبوعاً حيّاً لا يَنضُب ومصدر وحيها ورمزيّتها، وغايتها الأخيرة.
يَظهَر المَنحَى الرَّعَائي في الجماعة المصلّيّة التي تُعتبر جماعة كتابيّة في محوريّة اللقاء مع "كلمَة الله"؛ كَلِمَة الحَيَاة، فيها تُفسَّر الكلمة وتُعلن البشَارة التي تحملهَا الكنيسَة رسَالة حيَّة إلى العَالم أجمَع.
1 – 3 مهمَّة المؤمنين في ليتورجيَّة الكَلِمَة:
يَجتمِع شعبُ الله بكَلِمَة المَسيح، وبهَا يَنمو ويَتغذَّى. "وهذا يَنطبق خاصَّةً على ليتورجيَّا الكَلِمَة في إقامَة القداسَات، حيثُ يَتَّحِد إتِّحَاداً لا يَنفَصِل، الإخبَار بمَوت الرَّبّ وقيَامَتِهِ. وجَواب الشَّعب المُستمِع، والتقدِمَة نفسُهَا، التي ثبَّتَ بهَا المَسيح العَهد الجَديد في دَمِهِ، والتي يَشترك فيهَا المؤمنون بالصَّلوات وقبول السِرّ". فإنَّهُ "ليسَ عندَمَا يُتلى "مَا كُتِبَ لِتعليمِنا" (رومَة 15: 4) فقط، بَل عندمَا تصَلّي الكَنيسَة وتنشِد أيضاً، يَتَغذَّى إيمَان المشتركين في إقامَة الذبيحَة، وتسمو نفوسُهُم إلى الله، ليؤَدّوا إليهِ التكريم الواعي، ويَتَلقَّوا منهُ فيضاً مِنَ النِّعمَة".
في ليتورجيَّة الكَلِمَة، "وبسَمَاع الإيمَان"، تقبَل جَمَاعَة المؤمنين بالمَسيح مِنَ الله حتى اليَوم كَلِمَة العَهد، ومن واجبهَا أن تستجيب لهذه الكَلِمَة بالإيمَان عينِهِ، كي تصبح عبرَ الأيَّام، وعلى نحوٍ أكمَل، شعبَ العَهد الجَديد.
ومِن حقِّ شعبِ الله الرّوحي، أن يَقتني كنزَ كَلِمَة الله بغزارَة. وهذا مَا يَتحقَّق أيضاً باستعمَال رتبَة قراءَات القدَّاس، والمَواعِظ، والعَمَل الراعَوي.
يَقول البَابَا بولس السَادِس: وقد عُمِلَ على تنظيم ذلِك، بنوعِ يَبعَثُ في المؤمنين جوعاً أشَدّ إلى كَلِمَة الله. فيَهُبُّ شعبُ العَهد الجديد، بتأييد من الروح القدس، للسَعي الحَثيث وراءَ وحدة الكَنيسَة التامَة. وإنَّا لآمِلون كلَّ الأمَل، والحَالَة هذه، أن يَتَهيَّأ الكَهَنَة وجَمَاعَة المؤمنين لِعَشَاء الرَّبّ تهيئَة أكثَرَ فأكثَر، في الوقتِ عينِه، بكَلِمَة الرَّبِّ يَوماً بعدَ يَوم، وقد ازدادوا تعمُّقاً في تأمُّلِهم لهَا. وعلى هذا المِنوال، يُصبح الكتاب المقدَّس أخيراً، وفقَ تعليم المَجمَع الفاتيكاني الثاني، يَنبوعاً مستمراً للحَيَاة الروحيَّة، ويَنبوعاً مستمراً للعَمَل الرَّاعَوي، وأهمّ أداة لنقل التَعليم المَسيحي، وروح علم اللاَّهوت".
1 – 4 الغرض الرعَوي مِن رتبَة قراءَات القدَّاس:
إنَّ لرتبَة القراءَات، التي يَعرضُهَا كتاب قراءَات القدَّاس، وفقاً لروح المَجمَع الفاتيكاني الثاني، غرضٌ راعَوي في الطليعَة. لِذلِكَ لا تذكر هذه الرتبَة القواعد التي ترتكز عليهَا فحَسب، بَل تشمُل أيضاً قائِمَة النصوص، التي أمعَنَ النظر في اختيَارهَا وتقسيمِهَا، جَمَاعَة كبيرَة مِن إعلام الأرض كلِّهَا، مِمَّن هم أصحَاب العلوم الكتابيَّة والليتورجيَّة والتعليميَّة والرعَويَّة. ومَا هذه الرتبَة سوى ثمرة ذلِكَ العَمَل المشترَك.
والأمَل مَعقود على أنَّ قراءَة الكتاب المقدَّس وشرحِهِ، الواجب القيَام بهمَا إنطلاقاً مِن رتبَة القراءَات، في الجَمَاعَة المَسيحيَّة، عند الإحتفال بالإفخارستيَّا، سَيَعمَلان على تحقيق الغَرَض الذي كثيراً مَا عَرَضَهُ المَجمَع الفاتيكاني الثاني.
وعليهِ فإنَّ رتبَة قراءَات القدَّاس هذه، إنَّمَا هي تنظيم للقراءَات الكِتابيَّة، يوفِّر للمؤمنين بالمَسيح رؤيَة شَامِلة لِكَلِمَة الله، إنطلاقاً مِن تصَاعُد متنَاغِم. فطوال السنة الليتورجيَّة، وخصوصاً في الزمَن الفِصحيّ المقدَّس، والزمَن الأربَعيني المقدَّس، وزمَن المَجيء المقدَّس، يعمد اختيَار القراءَات وترتيبُهَا، إلى حَمل المؤمنين على التعمُّق شيئاً فشيئاً في الإيمَان الذي يُقرّونَ بهِ، وفي تاريخ الخلاص. وعلى هذا المنوال فإنَّ رتبَة القراءَات هي استجَابَة لحَاجَات الشعب المَسيحي وأمنيَتِهِ.
ومَع أنَّ العَمَل الليتورجي ليسَ مِن طبيعَتِهِ وسيلة خصوصيَّة للتعليم المَسيحي، فإنَّ لهُ ميزة تعليميَّة ظاهِرَة في كتاب قراءَات القدَّاس، حتَّى إنَّهُ يمكن أن يُعَدَّ أداة تربَويَّة تسَانِد التعليم المَسيحي.
فإنَّ رتبَة القراءَات تعرض عرضاً مناسباً أهمّ مآثِر تاريخ الخلاص وأقوالِهِ، مقتبَساً مِنَ الكِتاب المقدَّس، بطريقة تعيد بليتورجيَّة الكَلِمَة إلى الذهن، من حين إلى آخر، هذا التاريخ، في كثير مِنَ أيامِهِ وأحداثِهِ، فيَظهَر للمؤمنين وكأنَّهُ أمرٌ متواصِل فعلاً، يمثِّل سرَ المَسيح الفِصحيّ المحتَفَل بهِ في الإفخارستيَّا.
ثانياً: مشارَكَة الرعيَّة في الإحتِفال:
لعِبَ الإصلاح الليتورجي الذي أقرَّهُ المَجمَع الفاتيكاني الثاني دوراً هاماً على صعيد الرعَايَا والأبرشيَّات والأديَار، على اختلاف طقوسها وليتورجيَّاتِهَا، كَمَا وأنَّ الكتب الليتورجيَّة الجديدة بكلِّ أنواعِهَا كانَ لهَا الدور الأكبَر في مشارَكة أكثر فعَاليَّة للجَمَاعَة المصليَّة في الكَنيسَة. إذ أثمَرَت هذه الجهود وأعطت ثمارَهَا من خلال الإحيَاء الليتورجي والمشَاركة الأكثر فعَاليَّة في الأعمال الليتورجيَّة، والوعي الجيِّد لمَكانة الليتورجيَّا في حيَاة الكنيسَة المقدَّسَة. إنَّ للعَمَل الرعوي الليتورجي دورٌ هامّ في حيَاة المؤمنين وذلِكَ في الدخول أكثر إلى لبّ العَمَل الليتورجي وروحِهِ ومَعَانيه. إنَّ المؤمنين الذينَ يأتونَ إلى كنيسَتِنا مثلاً: (دير سيِّدة الكَرمِل – الحَازمية) لا يزالون يُقبلون على الإحتفالات الليتورجيَّة وقبول الأسرار على الرغم من انشغالاتهم والتزاماتهم الإجتماعية الكثيرة التي تطرأ فجأةً على حياتهم اليوميَّة. ففي نفوس هؤلاء المؤمنين عطشٌ كبير ورغبة حقيقيَّة لمزيد من التعمق في الأسرار المقدَّسَة والإحتفالات الليتورجيَّة المختلفة وما تحملهُ مِن مَعَانٍ ورموز. وهذا الواقع الإيجابي هو دافع فعليّ وجدّيّ لمواصلة الجهود المبذولة حتَّى الآن.
2 – 1 مشارَكَة الرعيَّة بالنصوص والتراتيل:
مَا زالت الكنيسَة المقدَّسَة حتَّى يَومنا هذا، جَاهدَة في العَمَل على تنفيذ مهمَّتهَا الدائِمَة وهي نشر كلمَة الله، واكتشَاف سُبُل أكثر فعاليَّة ومَسؤولة لاستِخدَام الوسَائِل في سُبُل مَجدِ الله وخدمِة أبنَائِهَا. وهذه الحقائق هي مواهب الله التي منحها إيَّانا للإتصال مع الآخرين وهي قدرة التحدُّث والسَمَع والنظر والترتيل والتلحين والنصوص والصوت التي هي موهبة عُظمَى مِنَ الله.
ومن بين القدرات التي ذكرتهَا سأسلِّط الضوء على نقطتين رئيسيَّتين وهي الترتيل والنصوص التي علينا أن نعتبرُهَا وسَائِل وأدوَات وُضِعَت كأمَانَة بين يدينا. الترتيل هو هبَة مِن هبات الرَّب لكلِّ واحدٍ منَّا وعلينا أن نستخدِمَهَا في رعَايَانا لغايات الخير ولمساعدة المؤمنين من الناحية الثقافية الروحيَّة والفنيَّة والليتورجيَّة. هذه المُساعدة لأبناء الرعيَّة تطوِّر ثقافياً واجتماعياً ودينياً، ويمكنها أيضاً أن تقوم بخدمَة مميَّزة في إيصَال الإيمان الديني لهم على الرغم من أنَّها قد لا تقوم مقام الإنسَان نفسَهُ لأنَّهُ بدورهِ مَدعو لأن يَحمِل شهَادَة الصِّدق والحقّ والرِّسَالة المَسيحيَّة الحقيقيَّة.
إنَّ أعظَم جوقة، هي أن تتحوّل الجَمَاعَة المؤمِنَة بكاملهَا إلى جوقة حقيقيَّة فحضورهم في قلب الكنيسَة لهُ دورٌ هامّ في إنعَاش حيَاة الكنيسَة وصَلاتهَا وعبادتهَا في ورشَة التجديد الطقسي، كَمَا وأنَّ دورهم كنسيّ رعوي. والليتورجيَّا هي تحقيق فعليّ لعَمَل المَسيح الخلاصيّ الذي يتابع حضورَهُ وعَمَلهُ فيها، وهي عَمل شعبِ الله... لذا لا يكفي الحضور الجَسَدي بل المَطلوب هو الإشتراك الفعَّال. والترتيل جزء لا يتجزّأ من العَمَل الطقسي (دستور الليتورجيا 112).
– 2 اهتِمَام الكَاهِن ودوره في الرَّعيَّة:
كاهن الرعيَّة عطيَّة الله لشعبِهِ، حَسَبَ وعدِهِ على لِسَان إرميا: "وأعطيكم رعاة على وفق قلبي" (إرميا3/5). فكان الراعي الصالح بامتياز يسوع المسيح (يو10/11؛ عبرانيين13/20).
1. يقوم الكاهن بعمل الرعاية باسم المسيح وبقوة الروح القدس، فهو الذي أوكل إليه رعاية شعب الله، رعاية الراعي لخرافه (انظر يو21/15-17؛ 1بطرس5/2). هو الروح القدس، الذي وُسم به الكاهن، يصورّه على صورة يسوع المسيح الكاهن والراعي الصالح. حضوره في الرعية امتداد للمسيح الراعي الأوحد والأعظم، متشّبهاً بنمط حياته، عاكساً صورته بشفافية. أمَّا الثمار الروحيَّة فهي من عمل الروح القدس الذي يحقق بقوة الخلاص الذي تممه الرَّب يسوع بموته وقيامته.
2. الكاهن هو خادم الجماعة في الكنيسة السّر والشركة والرسالة. في الكنيسة-السّر، يحقق حضور المسيح ويساعد المؤمنين على الاتحاد به وبواسطته بالآب والروح القدس. في الكنيسة- الشركة، يبني وحدة الجمَاعَة بالحقيقة والمحبة، ومن خلال تناغم المواهب والخِدم. في الكنيسة – الرسالة، يقود الجماعة إلى الشهادة للمسيح بالانتصار على العداوة والظلم والتفرقة، وبإحلال العدالة والمحبَّة والسلام.
3. يعمل الكاهن في تحقيق السّر والشركة والرسالة من خلال وظيفته المثلثة كمعلم ومقدّس ومدبّر للجماعة، التي يستمدها من المسيح النبي والكاهن والملك. فالكاهن مكرّس بسرّ الكهنوت على صورة المسيح الكاهن الأعظم والأبدي. إنه، في الوقت عينه، على مثال المسيح، أخ بين إخوته المؤمنين يعكس محبَّة المسيح والله الآب، وهو لهم أب يلدهم بالإيمَان، ويفتقدهم في بيوتهم، ويقف على حاجاتهم الروحية والزمنية.
يَلعَب الكَاهِن الدور الأبرز في الرَّعيَّة، فهو الأب، والمُرشد، والموجِّه، والشَّاهد لحبِّ الله ورحمتِهِ الواسِعَة، فيُساعِد أبناء رعيِّتِهِ على المضيّ قدُماً في حياتِهم المسيحيَّة، وهذا ما يتطلب مِنَ الكاهن أن يوفِّر الوقت الكافي والمناسِب والمنتظم لسَمَاع الاعترافات وغيرهَا، كَمَا وأنَّ شخصيَّتهُ مِن حيثُ طريقة تفكيرهِ وتعبيرهِ ونمط عيشِهِ ونوعيَّة حضورهِ تسهِّل علاقاتِهِ مَعَ الجَمَاعَة وقد تعرقِلهَا. إذا عدنا إلى المَجمَع البَطريركي المَاروني الذي سأستشهدُ بهِ هنا، نرى كيفَ أنَّهُ مِن خلال التوصيَات التي وضَعَهَا يُظهِر لنا كيفَ أنَّهُ على كاهن الرعيَّة أن يقومَ بدوره كامِلاً تجَاهَ رعيَّتِهِ، إذ يوصي المجمع بما يلي:
أ- تنشئة الكهنة روحياً وثقافياً ورعوياً، فمَسكونياً ورسَالياً، بدءاً من المدرسَة الاكليريكيَّة، وتواصلاً بالتنشئة المستدامَة.
ب- تفرّغهم مَا أمكن لخِدمَة الرعيَّة، بحيثُ يكون لخدمَة الرعيَّة الدور الأسَاس، ويتمكَّن الكاهِن من زيَارَة أبناء الرعيَّة في بيوتهم، ولاسيَّمَا تفقّد المرضى والمتألمين.
ج- تأمين معيشَة الكاهِن بالتعاوُن مَع أبناء الرعيَّة، بحيثُ تكون لائِقة وعَادِلة مَع ضمَانات حياتيَّة.
د- توزيع الكهنة على الرعَايا والمناطِق وفقاً لحَاجَاتهَا، على أن يتمّ ذلك بالتحاور والتفاهم والطاعَة البنويَّة. وحيث يكثر عدد الكهَنَة يجب توزيعهم أيضاً على جمَاعَات الانتشار.
ه- الاهتمام بالدعوات بالتعاوُن الوثيق مع لجنة الدعوات في الأبرشيَّة. يرافق الكاهن الدَّعوة في رعيَّتِهِ، ويميِّز علامَاتِهَا ويدرِّجهَا في حيَاة الرعيَّة.
ثالثاً: أمنِيَات مستقبَليَّة:
قالَ البَابَا يوحنَّا بولس الثاني حولَ دور الكَاهِن والجَمَاعَة الحَاضِرَة والتي هي مِنَ الأمَاني المستقبَليَّة: "الكاهن الذي يقدِّم الذبيحَة والجمَاعَة التي تحتفل بها حَسَبَ الطقوس المفروضة يعبِّرون بصَمت عن محبَّتهم واحترامهم للكنيسَة". لهذا السبَب طلبتُ من الدوائر الفاتيكانية المختصة أن تعدّ وثيقة تذكّر فيها بالقوانين الواجب اتباعها في الاحتفال بهذا السرّ العظيم. لا يُسمح لأحد بأن يقلّل من الاحترام اللازم للسرّ الموضوع بين أيدينا. فهو أكبر مِن مَن يُسمح لأيّ شخص أن يتعامل معه كما يحلو له، دون احترام لطبيعته المقدّسة او لبُعده الشامل.
ويَبقى على كلّ رعيَّة أن تطوِّر عملاً رعوياً يساعد المؤمن على:
العمل الرعوي الليتورجي بحاجة إلى أدوات فعّالة تساعد على تحقيق هذه الأهداف. وأولها إنشاء لجنة ليتورجية تتخذ المبادرات العملية لمساعدة أبرشياتنا على وضع الغايات والأهداف موضع الترجمة العملية. تسعى هذه اللجنة إلى:
* مواصلة الجهود لإعداد الكتب الليتورجية اللازمة للطقوس المختلفة تكميلاً للجهود الكبيرة التي بذلت لحد الآن.
* تعميم التوعية الليتورجية ووضع برامج تنشئة ليتورجية للمؤمنين (دورات مختصة، دراسات، أيام دراسية…).
* العمل على وضع برامج لإعداد المنشطين الليتورجيِّين في الرعايا كي يتوفر في كلّ رعيَّة الأشخاص المناسبون لإحياء العمل الليتورجي (تحضير القداس، القراءات، صلوات المؤمنين…).
* إعداد الأدوات الضرورية للعمل الرعوي الليتورجي (نشرات، ملصقات، تعليقات لاحتفالات يوم الأحد، وغيرها).
بالإضافة إلى اللجنة الليتورجية في أبرشياتنا من الضروري أن تقام في كل رعية لجنة ليتورجية يقع على عاتقها:
1 - التوعية الليتورجيَّة لأبناء الرعية (بالسهرات الإنجيليَّة، على سبيل المثال، وغيرها من الوسائل).
2 - إعداد الإحتفالات الليتورجيَّة على أنواعها، خاصة الاحتفال الإفخارستي يوم الأحد، بحيث تجري هذه الاحتفالات بتقوى ووقار وإيمان، وذلك بتحضير النصوص المناسبَة والتراتيل والخدام والقرّاء، واتخاذ المبادرات البسيطة التي تبرز معاني الإحتفال الليتورجي.
3 - الاهتمام بجميع جوانب الحياة الليتورجيَّة (الأزمنة الليتورجية، يوم الأحد، الأعياد الكبرى، القداس اليومي، الاحتفال بالأسرار المقدَّسة، نشر ليتورجيا الساعات في الرعايا، الإهتمام بخدام الهيكل وبالكنيسة وبزينتها وكل ما يتعلق بالاحتفال الليتورجي)، بالإضافة إلى الاهتمام بالممارسات التقويّة الشعبية الشائعة في بلادنا (درب الصليب، السبحة الوردية، ...) كي تكون ذات مضمون إيماني حقيقي.
4 - إبراز معنى الليتورجيا ووضعها في متناول المؤمنين كي تغذّي حياتهُم الروحيَّة والرسوليَّة.
خاتِمَة:
إنَّ السرّ الإفخارستي – الذبيحة والحضور والوليمَة – والعَمَل الرِّعَائي لا يقبل انتقاصاً ولا تلاعباً. يجب أن يُعاش بشكل كامِل، سواء كان ذاك في الإحتفال الليتورجي أو في علاقة الصلاة الحميمة بعد المناولة المقدَّسَة، أو في السجود للقربان الأقدس خارج وقت القدَّاس أو أي عَمَل رسولي رعائي. عندئذ تُبنى الكنيسة بشكل قوي وتعبِّر عن جوهرها بأنَّهَا: واحدة، جَامعَة، مقدَّسة، رسوليَّة. شعب، هيكل الله وعائلة الله، جسد المسيح وعروسه، يحييها الروح القدس، سرّ خلاص شامل وشركة مؤسِّسَة. ففي القدَّاس، تتّحد الكنيسة والجَمَاعَة بذبيحة المسيح، وتبشِّر بعَمَل عظيم يفوقها كلَّها، أعني التجسّد الفادي.