الخميس المُقدَّس في عشَاء الرَّبّ حسب الطقس اللاَّتِيني
كتابة الأب نوهرا صفير الكَرمَلي
أمَّا نحنُ، فلا بدَّ لنا مِنَ الإفتخار، بصليبِ ربِّنا يَسوع المَسيح: هو خلاصُنا وحَيَاتنا وقيَامَتنا، وهو فدانا وحرَّرَنا. (مِنَ الليتورجيَّا اللاتينيَّة، قدَّاس المَسَاءْ في عَشَاءْ الرَّبّ).
مقدِّمة:
يقول المَجمَع الفاتيكاني الثاني رقم 47: إنّ فادينا، في العشاء الأخير، وفي الليلة التي أُسلم فيها، كرّس الفداء الإفخارستيّ بجسده وبدمه لكيّ يديم فداء الصليب على مرّ الأجيال، حتى مجيئه، ولكي يعهد إلى الكنيسة، عروسه الحبيبة، بذكرى موته وقيامته: سرّ الحبّ، علامة الوحدة، أصل المحبّة، وليمة الفصح التي فيها نتناول المسيح والروح، فننال ملء النعمة، وعربون المجد الآتي الموهوب لنا.
تفتتح الكنيسَة الاحتفال بالـثلاثيَّة الفِصحيَّة مساء الخميس المقدَّس، وتقيم ذكرى عشاءْ الرَّبّ، العشاء الذي تناوله الرَّبّ مع تلاميذه عشيّة آلامه. ويبدأ الاحتفال بترتيلة (راجع غلاطية 6، 14) تُذكّر بوحدانيّة السرّ: ليكن صليب سيدنا يسوع المسيح فخرنا الوحيد، به نلنا الخلاص والحياة والقيامة. (صلاة الافتتاح، قدّاس الخميس المقدَّس).
لم يعد فعل غسل القدمين وحده فقط في موضع الأهمّية، بل اكتسب رمزا الخبز والخمر الأهميّة الأولى. وهما رمزان يدعواننا في الإيمان إلى أن نقبل بأن نخسر حياتنا ونستقبلها من جديد، في وحدةٍ مع المسيح الذي مات وقام من بين الأموات لأجل خلاصِنا.
الخميس المقدَّس هو آخر ليلة مِن حياة يسوع على أرضنا. فإليه مازالت تتوجَّه بنا الأيَّام المَاضية وهو بدء سَاعَة يَسوع، تلكَ التي يتكلَّمُ عليهَا مراراً إنجيل القدِّيس يوحنَّا، والتي فيهَا يتمّ يسوع الرِّسَالة التي جَاءَ مِن أجلِهَا إلى أرضنا.
ولقد افتتحَ القدِّيس يوحنَّا سرَّ هذا الخميس المقدَّس بهذِهِ الكَلِمَة الخالِدة الواردة في مَطلع إنجيل هذا المَسَاءْ:
"كانَ يَسوع يَعلم أنَّ سَاعَة انتقالِهِ إلى أبيه قد دَنَتْ، وقد أحَبَّ خاصَّتَهُ الذينَ هم في العَالم، فبلغَ بهِ الحبّ لهُم إلى أقصى الحدود". وفي الواقع، كلّ شيءْ، في هذِهِ الليلة، يحدِّثنا عن حبّ المَسيح.
تاريخيَّة هذا اليوم المقدَّس:
اعتباراً من النصف الثاني من القرن الرابع، أخذت الكنيسة تحتفِل أو تعيِّدُ عشاء الرَّبّ عشيّة الخميس المقدَّس مِن الثلاثيَّة الفصحيَّة، في حين أنَّهُ كان يُحتفل بعيد الفصح سابقاً كوحدةٍ لا تتجزّأ ليلة الفصح.
بدأت الكنيسة في روما تقيم قدّاساً قبل قدّاس المساء، يُعرف بقدّاس مصالحة التائبين. فأولئك الذين اعترفوا بكونهم خطَأة، الذين أقاموا الصيام والصلاة خلال فترة زمَن الصوم الأربعينيّ المقدَّس (أو حتّى لسنوات عدَّة) لكي يهتدوا للإيمان، الذين حُرموا من تناول الإفخارستيّا (إذ كانوا ينتمون إلى جماعة التائبين)، كانوا يأخذون الحلّة من الأسقف صباح الخميس المقدَّس، ويشاركون في قدّاس المصالحة المذكور.
أمّا في كنيسة أورشليم، فكان يُحتفل بالقدّاس يوم الخميس المقدَّس بالقرب من الجلجلة. ثم يحتفل الأسقف بقدّاسٍ آخر لاحقاً حوالي الساعة الرابعة على موقع الصلب نفسه. وبذلك تؤكَّدُ طبيعة التضحية التي يُحتفلُ بها على الهيكل إزاء تضحية الصليب. وكانت المناولة فيه متاحةً للجميع. وظهر أيضاً قدّاسٌ ثالث بعد ذلك، مكرّسٌ لتحضير ومباركة الميرون المقدّس الذي أصبَحَ اليوم قدَّاس الصباح، الزيت المطيَّب الذي يستخدم خلال السنة للمسحة المعطاة بعد المعموديّة ولمسح الآباء والأساقفة لدى رسامتهم والمَرضى.
اعتباراً من القرنَين الرابع والخامس ظهرت ثلاثة قداديس:
قدّاس مصالحة التائبين،
قدّاس تكريس الميرون، عند الصبَاح
قدّاس الخميس المقدَّس في عشاء الرَّبّ، في المساء.
هذا السرّ العظيم المقدَّس هو ذاته الذي تحتفل به الكنيسَة المقدَّسَة الجَامِعَة يومَي الجمعة العظيمة والفصح المقدَّس. إنّه السرّ الذي يتمحور حول الدلالة التاريخيّة التي تُترجَم في احتفالٍ ليتورجيّ مقدَّس.
ليتورجيَّة قدّاس عشيّة الخميس المقدَّس في عشاء الرَّبّ:
إنه من أقدم عادات الكنيسة، ففي هذا القدّاس يُتلى نشيد المجد لله في العلى وفي أثناء ذلك، تقرع الأجراس، ثمَّ تصمت حتى العشيَّة الفصحيَّة ويُتلى إنجيل الغِسل، ثم يلقي الكاهنُ عظةً وغايتُها أن تضفي نوراً على أهمّ الوقائع التي تُذكَرُ في هذا القدّاس:
كما تلقي ضوءاً على وصيّة الرَّبّ الكبرى في المحبَّة الأخويَّة وفي هذا القدّاس لا يُتلى قانون الإيمان بل صلاة المؤمنين.
ثمّ تُقام رتبة "غسل الأرجل"، يقوم بها الكاهن بينما تنشَدُ تراتيلُ المحبَّة. ويتبعها: التَّقدمة والكلام الجوهري حيث يقول الكاهن: "فهو في اللَّيلة ا
لسابقة لآلامه من أجل خلاصنا وخلاص جميع البشر، أي في مثل هذه الليلة المقدَّسة، أخذ خبزاً..." وبعد المناولة، يأخذ الكاهن ما تبقّى من القرابين، ومع التراتيل، نحو مذبحٍ مزيَّن لها.
ثم يعود الكاهن مع الخدّام ويخلع بذلته ثمَّ يعرّى المذبح من زينته كلّها، وهو يتلو المزمور21: "إلهي إلهي لماذا تركتني". وتطفأ جميع الأضواء إلاّ أضواء الشموع على المذبح المزيَّن للقربان المقدَّس. ويحرُصُ المؤمنون على أن يقضوا بعضَ الوقت مِن هذه اللَّيلة في السجود للقربان حتى منتصف الليل.
كلّ هذا يرمز إلى الدخول في السرّ ومرافقة يسوع في آلامه والشوق إلى الاإشتراك معه في مجد قيامته.
تقسَم ليتورجيَّة هذا اليوم المقدَّس وهذهِ الليلة المقدَّسَة إلى:
أولاً - صبَاحاً: في الكنائِس اللاتينيَّة والأديار تُتلى صلاة السَحَر ومِن بَعدهَا في الكنيسَة الكاتدرائيَّة "قدَّاس المَيرون" مَعَ الأسقف حيثُ يجدِّد الكَهَنة مَواعيدَ كهنوتهم ومِن ثمَّ تبريك الزيت.
ثانياً - مَسَاءً: قدَّاس عشاء الرَّبّ ورتبة غسل الأرجل وفيهَا:
ملاحظة: تعريَة المَذبَح وتغطية الصور ممَّا أمكن من تغطيتهم والصلبَان وغيرهَا بعد القدَّاس أو قبلهُ إشارة مِنَ اللحظة ذاتِهَا إلى أنَّ المَسيح قد دخَلَ سَاعَتهُ، سَاعَة الأعداء، وسلطان الظلمات، وصورة لغياب الشمس وحزنهَا على آلام وموت الفادي والمخلِّص. ولِذلِكَ تدور آيَات القدَّاس حول أهميَّة الآلام والصليب المَملوءين مِن طاقات القيَامَة، والجَسَد والدم المَبذولين مِن أجلنا.
مِن رسَالة القدِّيس بولس الرَّسول الأولى إلى أهل قورنتس (1قور 11: 23 – 26).
23 فإِنِّي تَسَلَّمتُ مِنَ الرَّبِّ ما سَلَّمتُه إِلَيكُم، وهو أَنَّ الرَّبَّ يسوع في اللَّيلَةِ الَّتي أسلِمَ فيها أخَذَ خُبْزًا 24 وشَكَرَ، ثُمَّ كَسَرَه وقال: (( هذا هو جَسَدي، إِنَّه مِن أَجْلِكُم .اِصنَعوا هذا لِذِكْري )). 25 وصَنَعَ مِثلَ ذلكَ على الكَأسِ بَعدَ العَشاءِ وقال: (( هذه الكَأسُ هي العَهْدُ الجَديدُ بِدَمي. كُلُّمَا شَرِبتُم فاصنَعوه لِذِكْري )).26 فإِنَّكُمَ كُلَّمَا أَكَلتُم هَذا الخُبْز وشَرِبتُم هذِه الكَأس تُعلِنونَ مَوتَ الرَّبِّ إِلى أن يَأتي.
الإنجيل المقدَّس ( يوحنَّا 13: 1 - 17).
13 1قبلَ عيدِ الفِصح، كانَ يسوعُ يَعَلمُ بِأَن قد أَتَت ساعَةُ انتِقالِه عن هذا العالَمِ إِلى أَبيه، وكانَ قد أَحَبَّ خاصَّتَه الَّذينَ في العالَم، فَبَلَغَ بِه الحُبُّ لَهم إِلى أَقْصى حُدودِه. 2وفي أَثْناءِ العَشاء، وقَد أَلْقى إِبَليسُ في قَلْبِ يَهوذا بْنِ سِمعانَ الإِسخَريوطيِّ أَن يُسلِمَه، 3وكانَ يسوعُ يَعلَمُ أَنَّ الآبَ جَعَلَ في يَدَيهِ كُلَّ شَيء، وأَنَّهُ خَرَجَ مِنَ الله، وإِلى اللهِ يَمْضي، 4فقامَ عنِ العَشاءِ فخَلَعَ ثِيابَه، وأَخَذَ مِنديلاً فَائتَزَرَ بِه، 5ثُمَّ صَبَّ ماءً في مَطهَرَةٍ وأَخَذَ يَغسِلُ أَقدامَ التَّلاميذ، ويَمسَحُها بِالمِنديلِ الَّذي ائتَزَرَ بِه. 6فجاءَ إِلى سِمعانَ بُطرُس فقالَ له: (( أَأَنتَ، ياربُّ، تَغسِلُ قَدَمَيَّ؟))7أَجابَه يسوع: (( ما أَنا فاعِلٌ، أَنتَ لا تَعرِفُه الآن، ولكِنَّكَ ستُدرِكُه بَعدَ حين)). 8قالَ له بُطرُس: (( لن تَغسِلَ قَدَمَيَّ أَبَداً)). أَجابَه يسوع: (( إِذا لم أَغسِلْكَ فلا نَصيبَ لَكَ معي)). 9فقالَ له سِمْعانُ بُطُرس: (( يا ربّ، لا قَدَمَيَّ فَقَط، بل يَدَيَّ وَرأسي أَيضاً)).10فقالَ لَه يسوع: (( مَن استَحَمَّ لا يَحتاجُ إِلاَّ إِلى غَسلِ قَدَمَيه، فهو كُلُّه طاهِر. ,أَنتُم أَيضاً أَطهار، ولكِن لا كُلُّكم)). 11فقَد كانَ يَعرِفُ مَن سَيُسْلِمُه، ولِذلِكَ قال: لَستُم كُلُّكم أَطهاراً. 12فلَمَّا غَسَلَ أَقدامَهم لَبِسَ ثِيابَه وعادَ إِلى المائدة فقالَ لَهم: (( أَتَفهَمُونَ ما صَنَعتُ إِليكم؟ 13أَنتُم تَدعونَني (( المُعَلِّمَ والرَّب)) وأَصَبتُم في ما تَقولون، فهكذا أَنا. 14فإِذا كُنتُ أَنا الرَّبَّ والمُعَلِّمَ قد غَسَلتُ أَقدامَكم، فيَجِبُ علَيكُم أَنتُم أَيضاً أَن يَغسِلَ بَعضُكم أَقدامَ بَعْض. 15فقَد جَعَلتُ لَكُم مِن نَفْسي قُدوَةً لِتَصنَعوا أَنتُم أَيضاً ما صَنَعتُ إِلَيكم. 16الحَقَّ الحَقَّ أَقولُ لَكم: ما كانَ الخادِمُ أَعظِمَ مِن سَيِّدهِ ولا كانَ الرَّسولُ أَعظَمَ مِن مُرسِلِه. 17أَمَّا وقد عَلِمتُم هذا فطوبى لَكُم إِذا عَمِلتُم بِه.
الإطار الليتورجي:
تظهرُ لنا الكنيسَة اللاتينيَّة الرومَانيَّة عظمَة هذه الثلاثيَّة الفصحيَّة ابتداءً مِن قدَّاس عشاء الرَّبّ فهذا اليَوم المقدَّس الذي تفتتح فيه كنيسَتنا هذهِ الأيَّام المقدَّسَة هو سرّ الأسرار، هو سرّ القربان المقدَّس الذي تأسَّسَ في ذلِكَ العشاءْ الفصحيّ الذي سَبَقَ الآلام الخلاصيَّة. كانَ في الأصل عشاء فصح أكلهُ الرَّبّ مَعَ تلاميذِهِ مرَّة كلّ سنة، كَمَا يَفعَل الشَّعب اليَهوديّ. إلاَّ أنَّ الرَّبّ أعطى هذا الطقس معنىً جديداً بعدَ أن صارَ هو حَمَلَ الفِصح الذبيح الذي لن يُكسَرَ لهُ عظمٌ فينقلنا، لا مِن عبوديَّة إلى حريَّة وَحَسب، بَل مِنَ المَوتْ إلى الحَيَاة والقيَامَة. وفي هذا اليوم المقدَّس مِنَ الأسبوع العظيم وضَعَت لنا الليتورجيَّة القراءَة الأولى حولَ مَا يقولهُ سِفِر الخروج (12، 1- 8 : 11 – 14) عن الاحتِفال بالفصِح اليَهودي أو مراسيم العَشاءْ الفصحيّ:
12 1 وكَلَّمَ الرَّبُّ موسى وهارونَ في أَرضِ مِصرَ قائلاً: 2 (( هذا الشَّهرُ يَكونُ لَكم رَأسَ الشُّهور، وهو لَكم أَوَّلُ شُهورِ السَّنة. 3 كَلِّما جَماعةَ إسْرائيلَ كُلَّها ومُراهُم أَن يَتَّخِذوا لَهم، في العاشِرِ مِن هذا الشَّهرِ، كُلُّ واحِدٍ حَمَلاً بِحَسَبِ بُيوتِ الآباء، لِكُلِّ بَيتٍ حَمَلاً. 4 فإِن كانَ أَهْلُ البَيتِ أَقَلَّ مِن أَن يأَكُلوا حَمَلاً، فلْيَأخُذوه هُم وجارُهمُ القَريبُ مِن مَنزِلِهم بِحَسَبِ عَدَدِ النُّفوس، فَيكونُ الحَمَلُ بِحَسَبِ ما يأكُلُ كُلُّ واحِد. 5 حَمَلٌ تامٌّ ذَكَرٌ حَولِيٌّ يَكونُ لَكم، مِنَ الضَّأنِ أَوِ المَعِزِ تأخُذونَه. 6 ويَبْقى مَحْفوظاً عِندَكم إِلى اليَومِ الرَّابِعَ عَشَرَ مِن هذا الشَّهر، فيَطبُخُه كُلُّ جُمْهورِ جَماعةِ إِسْرائيلَ بَينَ الغُروبَين. 7 ويأخُذُونَ مِن دَمِه ويَجعَلوَنه على قائِمَتَيِ البابِ وعارِضَتِه على البُيوتِ الَّتي يأكُلوَنه فيها، 8 ويأكُلونَ لَحمَه في تِلكَ اللَّيلةِ مَشوِيّاً على النَّار، بِأَرغِفَةِ فطيرٍ معَ أَعْشابٍ مُرَّةٍ يأكُلونَه. 9 لا تأكُلوا شَيئاً مِنه نِيئاً ولا مَسْلوقاً بِالماء، بل مَشوِيّاً على نارٍ مع رأسِه وأَكارِعِه وجَوفِه. 10 ولا تُبقوا شَيئاً مِنه إِلى الصَّباح، فإِن بَقِيَ شيءٌ مِنه إِلى الصَّباح، فأَحرِقوه بِالنَّار. 11 وهكذا تأكُلونَه: تَكونُ أَحقاوُكم مَشْدودةً ونِعالُكُم في أَرجُلِكُم وعِصِيُّكُم في أَيديكُم، وتأكُلونَه على عَجَلٍ فإِنَّه فِصحٌ لِلرَّبّ. 12 وأَنا أَجْتازُ في أَرضِ مِصرَ في تِلكَ اللَّيلة، وأَضرِبُ كُلَّ بِكْرٍ في أَرضِ مِصْر، مِنَ النَّاسِ إِلى البَهائِم، وبِجَميعِ آِلهَةِ المِصرِيِّينَ أُنَفِّذُ أَحكاماً أَنا الرَّبّ. 13 فَيكونُ الدَّمُ لَكم عَلامةً على البُيوتِ الَّتي أَنْتُم فيها، فأَرى الدَّمَ وأَعبُرُ مِن فَوقِكم، ولا تَحِلُّ بِكُم ضَربَةٌ مُهلِكة، إِذا ضَرَبتُ أرضَ مِصْر. 14 ويَكونُ هذا اليَومُ لَكم ذِكْرى، فتُعَيِّدونَه، عيداً لِلرَّبِّ تُعيِّدونَه مَدى أَجْيالِكم فَريضةً أَبَدِيَّة.
هذا مَا فعَلهُ الرَّبّ يومَ عَشائِهِ الأخير، أرسَلَ تلاميذهُ القدِّيسين فهيَّأوا لهُ العشَاء في العليَّة ليأكُلَ مَعَهُم. وفي المَسَاءْ، جَلسَ للطعَام مَعَ تلاميذِهِ. ثمَّ رتَّلوا المَزامير التالية: 113 – 118 ومَجَّدوا الله ثمَّ خرَجوا إلى جَبَل الزيتون. وكانت بداية الآلام الخلاصيَّة مَعَ النزاع في بستان الزيتون.
الترتيب الليتورجي:
تُعيدُ لنا الكنيسَة إلى أذهانِنا مِن خلال قراءَات هذا اليوم المقدَّس مِنَ الأسبوع العظيم، ذِكرى العَشَاءْ السرِّيّ، وفيهِ غسلْ السيِّد لهُ المَجدُ قدمَي تلاميذِهِ ورَسْمُ سرّ الإفخارستيَّا (القربَان المقدَّس)، كَمَا أنَّهَا تذكِّرُنَا مِن جديد بخيَانة يَهوذا، التلميذ الغاشّ، الذي جَسَرَ على الاشتراك بأقداس الرَّبّ وغادَرَ العَشَاء لكي يُنفِّذ مؤامَرَة تسليم معلِّمِهِ.
لقد صنع الرَّبُّ في مِثلِ هذا اليَوم المقدَّس اختصاراً لسرِّ تجسُّدِهِ وفِدائِهِ. في عليَّةٍ، مَعَ تلاميذِهِ، أكَلَ مَعَهُم حَمَلَ الفِصِح وحوَّلَ الخبزَ إلى جَسَدِهِ والخَمرَ إلى دمِهِ. "مَا مِن حبٍّ أعظم مِن أن يَبذلَ الإنسَانَ نفسَهُ عن أحبَائِهِ"، وهذا ما فعَلَه المَسيحُ ليُخلِّصَنا. لقد أشرَكَنا في وليمَة حبِّهِ بعدَ أن منحَنا أسرارَهُ الخلاصيَّة: المَعموديَّة، الكَهنوت، التوبة، كمقدِّمَات لسرّ القربَان. فمَا أجمَلَ أن نتحلَّقَ، ونحنُ نتأمَّل بسرّ الآلام الخلاصيَّة، حولَ مَائِدة الإفخارستيَّا المقدَّسَة "لِنكسِر الكَلِمَة والخبزَ معاً ونجعَلَ كلّ شيء مشتركاً بيننا"، في وحدة مَعَ الجَمَاعَات والإخوة والأخوات فنكونَ علامَة في عَالمِنا.
سِفِر الخروج ( 12، 1- 8 : 11 – 14 ):
اختارت الكنيسَة الرومَانيَّة اللاتينيَّة هذا النص في ليلة الخميس المقدَّس في عشاء الرَّبّ، لتشدِّد على كلام الرَّبّ الذي أمَرَ الشَّعب بأن يتحضَّروا وينتقوا "حَمَلاً تاماً ذكَراً حولياً" ليَكونَ "فِصحاً للرَّبّ". اكتسَبَتْ هذِهِ الرتبَة بعدَ ذاك معنىً دينياً جديداً إذ عبَّرت عن الخلاص الذي أمَّنَهُ الله للشَّعب كَمَا وَرَدَ في الشرح في الآيَات اللاحِقة مِنَ الفصل 12. وهكَذا مهَّدَ الفِصح اليَهودي للفصح المَسيحي. فالمَسيح هو حَمَل الله الحَامِل خطايَا العَالم، هو حَمَل الفِصح الذبيح، يُذبَحُ ويُؤكَل في إطار الفِصح اليَهوديّ. وتحتفِل كنيسَتنا اللاتينيَّة بهذا الحَدَث، الصليب والعشَاءْ السرِّيّ المقدَّس في إطار الأسبوع المقدَّس. فالحَمَل إذاً يؤمِّن الخلاصَ للعَالم، ويصبح التجديد السرِّيّ لِعَمَل الفِداءِ هذا، مركز الليتورجيَّا المَسيحيَّة، وهي تنظِّم حولَ القدَّاس، بصفتِهِ ذبيحَة ومَائِدَة.
لقد وَضَعَ موسى طريقةً لأكل هذا الفِصِح: "تكونُ أحقاؤكم مشدودةً ونعَالكُم في أرجلِكُم وعصيِّكُم في أيديكُم" (آيَة 11) أي في حَالة الاستعداد للسفر. أمَّا المَسيحيّون ففِصحُهُم هو الرَّبّ يَسوع المَسيح الذي تألَّمَ ومَاتَ وقبرَ وقامَ منتصِراً مِن أجلهم مرَّة واحِدة، فيَجب عليهم أن يَنبذوا كلّ شرّ وخطيئة ويَحيَوا حيَاة النقاوة والحَقّ، كَمَا يذكِّرُنا القدِّيس بولس الرَّسول بقولِهِ: " قد ذُبحَ حَمَلُ فِصحنا، وهو المَسيح. فلنعيِّد إذاً بفطير الصدق والحَقّ، لا بالخميرَة القديمَة ولا بخميرة الخبث والفسَاد" (1 قورنتس 5: 8).
يشدِّد نصّ سِفِر الخروج في ليتورجيَّة هذا اليَوم المقدَّس على فكرة الاشتراك مَعَ الآخرين بوليمة الفِصِح. وقد تكون هذِهِ الآيَة الرابعة مدعاة لأن نعيَ أنَّ الفِصِح علامَة اتحَاد ووحدة في حَيَاتِنا اليَوميَّة. وتكمُن هنا قوَّة سرّ الإفخارستيَّا بأنَّهُ علامَة الوحدَة بينَ الإخوة الذين يَكسرون جَسَد المَسيح ويشربونَ دَمَهُ المقدَّس. أجَل إنَّهُ باشتراكِنا بجَسَد المَسيح وَدَمَهُ نشترك في الكنيسَة الجَامِعَة بكلِّ إخوتنا.
الأولى إلى أهل قورنتس (1قور 11: 23 – 26).
كلَّمَا احتفلنا بالقدَّاس الإلهيّ وتناولنا القربَان المقدَّس نحيي ذكرَ مَوت الرَّبّ لأجل حَيَاة العَالم. لقد أسلمَ الرَّبُّ نفسَهُ للموت ليكفِّرَ عن خطايَانا ويَفتَحَ لنا أبوابَ الفردوس ويعيدنا إلى الشركَة مَعَ أبيهِ السَّمَاويّ.
إنَّ الاشتراك بجَسَد المَسيح ودَمِهِ شهَادة إيمَان واعتراف بهذِهِ الحقيقة. لقد حَمَلت محبَّة المَسيح أن يَعمَلَ على انتشال الإنسَان الخاطئ ويردّه ليَحيَا حيَاة النِّعمَة والاتِّحَاد بخالِقِهِ والمُحسِن إليه. وهذا مَا عبَّرَ عنهُ الرَّسول يوحنَّا: "مَن يَأكل جَسَدي ويَشرَب دمي، يثبُتُ فيَّ وأنا فيه" (يوحنَّا 6: 56). عندمَا نأكُلُ ونشرَب مِن مَائِدة الرَّبّ نعقدُ مَعَهُ عهداً جديداً بأن نكونَ لهُ بجملتِنا.
إنَّ مَا تسَلَّمَهُ القدِّيس بولس الرَّسول وبلَّغنا إيَّاه هو أنَّ يَسوع أسَّسَ سرَّ الشكر أو مَا ندعوه بسرّ الإفخارستيَّا. لقد أعطانا المَسيح أعظمَ برهَان على مَحَبَّتِهِ للعَألم إذ حوَّلَ الخبزَ إلى جَسَدِهِ والخَمر إلى دَمِهِ ليَكونا مَأكلاً ومَشرباً حقيقيَّين. ثمَّ طلبَ إلى تلاميذِهِ أن يَعمَلوا مَا عمل ذِكراً لهُ، أي لآلامِهِ ومَوتِهِ.
في هذه الليلة، سَبَقَ يَسوع ذبيحَتهُ على الصليب يوم الجُمعَة، فأنشأ مَا يُخلِّد تلكَ الذبيحَة "إلى أن يأتي"، في كلِّ سَاعَة وإلى آخر الأيَّام. فلقد شَعَرَ بالفراغ الذي سَيَعقب مَوتهُ، فسَبَقَ ومَلأ ذلِكَ الفراغ بحضورهِ الدائِم، تحتَ شَكلي الخبز والخمر، بينَ مَن أبَى أن يدعوهم يَتامَى، إنَّهُ شَعَرَ بجوع العَالم إليه، فسَبَقَ وجَعَلَ مِنَ جَسَدِهِ وَدَمِهِ غذاءً ليَحيَا العَالم وزاداً للمسَافرين على طريق الحَيَاة، وزاداً أخيراً لطريق المَوت، وبذرة للقيَامَة والمَجد. وفي سبيل ذلِك، أقامَ السرَّ المرتبط بالقربَان المقدَّس، سرّ الكَهنوت: "إصنعوا هذا لذكري". ففي هذا المَسَاء، يقيم الكَهَنة قدَّاساً مشتركاً في الكنيسَة الراعويَّة، ويناولون الشَّعب قرباناً كُرِّسَ حديثاً، ليُذكِّر العَالم أنَّ هذهِ هي ليلة كهنة العَهد الجَديد، وقد أحَاطَ هؤلاء، صَبَاحَ اليَوم، بأسقفهم، يجدِّدونَ أمَامَهُ مواعِدهم الأولى، وعن كلّ هذا تحدِّثنا صلوات القدَّاس ومقدِّمَتهُ.
(يوحنَّا 13: 1 - 17).
خاتِمَة
في نهَايَة القدَّاس الإلهيّ، تعرَّى الكنيسَة مِن زينتِها كلّها، مَعَ تغطِيَة الصور والتماثيل وإزالة الصلبَان مِنَ الكنيسَة، ليَصيرَ التركيز على القربَان المقدَّس وَحدَهُ. ويُحتفظ بقربَان الخميس المقدَّس ليوم الجمعَة العظيمَ المقدَّس حيثُ يتناول منهُ المؤمنون في رتبة سجدة الصليب وجنَّاز المَصلوب بعد الظهر، تأكيداً على أنَّ ذبيحَة العشاءْ السرِّيّ المقدَّس وذبيحَة الجلجلة هي واحِدة.
إنَّ يَوم الخميس المقدَّس هو سرّ مَحَبَّة الله الفائِقة الوصف التي تجلَّت في سرّ الأسرار في سرّ إعطاءْ الرَّبّ ذاتهُ بكامِلِهِ للذينَ يؤمنونَ بهِ. والرَّبّ أرادَ قبلَ أن يُفارقَ أحبَّاءَهُ أن يَترُكَ لهُم علامَة حبِّهِ، فقدَّمَ ذاتَهُ ذبيحَة مقبولة لدى الله. وكلّ مرَّة نشتركُ في سرِّ الإفخارستيَّا، هو يَدعونا إلى وليمَتِهِ الفصحيَّة لنشاركَهُ في حَيَاتِهِ الجديدة والمَلكوت الجديد الذي افتتحَهُ.
أجمَل وسيلة لتقديس هذا اليوم: أن نخلدَ إلى الهدوء والسكوت وفي هذا الجوّ الشبيه بجوّ العليَّة المقدَّسَة، فلنجدِّد في فكرنا وقلبنا ذكرى كلّ مَا صَنَعَهُ الرَّبّ وكلّ مَا قالهُ، في ليلتِهِ الأخيرة، حباً لنا، باشتراك فعلي في طقوس هذا اليوم العظيم المقدَّس، التي هي من أشدّ الطقوس تأثيراً في النفس. لِندخل في سِرّ يَسوع المَسيح، فيَعود القربَان المقدَّس إلى حَيَاتنا، وتعود علامَة المَحَبَّة إلى جبَاهِنا، وندرك قيمَة النزاع الذي استحقتهُ خطايَانا، وثقل الصلاة التي رَفعَهَا المَسيح مِن أجلِنا. لِيَكن هذا يوم تناولنا الفِصحيّ، لا يَوماً نُسلِم الرَّبَّ فيهِ ثانيةً.
وفي الختام فلنصلِّ معاً هذِهِ الصلاة الجَمَاعيَّة التي تردِّدُهَا كنيستنا اللاتينيَّة في قدَّاس عشَاءْ الرَّبّ:
اللَّهُمَّ، إنَّكَ قد جَمَعتنا لحضور هذا العَشَاءِ السَّامي القداسَة، الذي فيهِ أنشأَ ابنُكَ الوَحيد، قبلَ أن يُسلمَ للمَوت، ذبيحَة جديدة ووليمَة مودَّة، للكنيسَة ولجميع الأجيَال، هَبْ لنا أن نستقيَ مِن هذا السرِّ العظيم مِلءَ المحبَّة والحَيَاة.بربِّنا يَسوع المَسيح ابنِكَ الإله الحَيّ المَالِك مَعَكَ وَمَعَ الرّوح القدُس، إلى دهر الدُّهور. آمين.
(صلاة الجمَاعة بحسب الليتورجيا اللاتينيَّة في قدَّاس عشَاءْ الرَّبّ ورتبة غسل الأرجل)