Page d'accueil Notre spiritualité
Marie Dans Notre Vie
  • Marie Dans Notre Vie

الكَرمَل كلُّهُ مَريَمي
"... هذه هي أمك..... ومن تلك السَّاعة أخذها التلميذُ إلى بيتِهِ" (يو 27، 19)
الأب نوهرا صفير الكرمليّ

مقدِّمَة:
إنَّ الرَّهبَانيَّةُ الكَرمَليَّة ترتكِزُ في نشأتِهَا، كمَا في روحَانيَّةِ قدِّيسيهَا وأبنائِهَا مِن كَرمَليِّين وكَرمَليَّات، على ركيزتين أسَاسيَّتين، همَا: إيليَّا ومريَم.
إِنَّ الآباء القدِّيسون وشرَّاح الكتاب المقدَّس ما انفكّوا ينقلون إلينا الرَّمز الروحي والسرِّي لتلك السحابة التي ظهرت للنبيّ إيليَّا على قِمّة جَبَل الكرمَل، والكنيسة رأت في تلك السحابة السرّية، التي انهَمَرت على الأرض مطراً غزيراً بعد طول انحبَاس، رمزاً للعذراء القدِّيسة، والِدة الإله المخلِّص الذي تجسَّد وسَكَنَ على الأرض يسكب عليها خيور النعمة والسعادة والحياة.
ونحنُ مِن خلال هذا العَمَل سوف نكتشِف دور مَريَم في حَيَاة الكَرمَليِّين والكَرمَليَّات ونغوصُ سويّاً في عمقِ أعمَاق هذه الروحَانيَّة المرتبطة جذورهَا بالكتاب المقدَّس وبالقدِّيسين الذين تركوا للكنيسَة وللرَّهبَانيَّة كنزاً مِن خلال كتاباتهم وروحَانيَّتهم.

رُهبَانيَّة الأخوة الحُفاة للطوبَاويَّة مَريَم العَذراء لجَبَل الكرمَل:
كَمَا سَبَقَ وقُلنَا أنَّ هناكَ نَجمَان مشعِّان يُرصِّعَان شِعَار الكَرمَل وعظمَته والَّذي عليهمَا يَرتَكِز كلّ تاريخ وروحَانيَّة الرَّهبَانيَّة الكَرمَليَّة. وقد تميَّز الكَرمَليّون بهويَّتهم المَريَميَّة مِمَّا أعطى الكَنيسَة حقَّ الإعتِراف لهم بالإسم الَّذي حَمَلوه على مَدى العصور والسنين: "رهبَانيَّة الإخوة الحُفاة للطوبَاويَّة مَريَم العَذراء لجَبَل الكَرمَل". كَمَا وعُرفَ هؤلاء الكَرمَليّون في باديء حَيَاتِهم ب "نسَّاك جَبَل الكَرمَل"، كَمَا ورَدَ ذلِك في قانونهم الأوَّل الَّذي وضعَهُ لهم الطوبَاوي ألبرتس، بطريرك أورشليم، بين سنة 1206 و1214 وقد أُقِرَّ للمرَّة الأولى بواسِطة أونوريوس الثالث في 30 – 1 – 1226 ومِن ثمَّ بواسِطة غريغوريوس التاسِع في 6 – 4 – 1229، وأخيراً بواسِطة إنوشِنثيوس الرابع في 8 – 6 – 1245، الَّذي ثبَّتهُ في 1 – 10 – 1247. والنَّص موجود في رسَالة البَابَا. Quae honorem Conditoris (Reg. Vatic. 21, ff. 465v - 466v). وكانَ ذلِكَ بُعَيْدَ رحيلهم من بلاد الشرق إلى الغرب.
لقد تمسَّكَ هؤلاء الكَرمَليّون بهويَّتهم المَريَميَّة وأصبَحَت والِدة الإله أمّاً لهم ومثالاً. هذه الهَويَّة المَريَميَّة كانت ميزة الرَّهبَانيَّة منذ البَدء، وبهَا عُرفَت وتميَّزَت، وقد تسَابَقَ البَابَوات والملوك بالدِفاع عن الكَرمَليِّين وحمَايَتِهم، مِمَّا جَعَلَ إكرام أمِّ الله والتشفُّع لهَا يَتزايَد على أبواب الأديرة والطلب بالإنتِسَاب إلى هذه الرَّهبَانيَّة.
هذه التسمية وفَّرت لهؤلاء الكَرمَليِّين كلَّ دعمٍ ومَحَبَّة في صفوف البَابَوات والملوك والمؤمنين. وبقي دور مَريَم في حَيَاتِهم نموذج ومثال لهم، هذه الأرض الطيِّبَة الخصبَة المقدَّسة التي أزهر فيها الخلاص.
إنَّ أصول الرَّهبَانيَّة التاريخيَّة، ولقبُهم والتقاليد القديمَة تدلّ على طابع دعوتهم المَريَميَّة والكتابية. أمَّا اختيَارهم العَذراء القدِّيسَة أمّاً وشفيعَة للرَّهبَانيَّة ذلِكَ باعتبَارهم أنَّ حَيَاتهَا الداخليَّة واشتراكِهَا في سِرّ المَسيح الإله هو مثالاً رائِعاً لتكرُّسهم الرُّهبَاني، كَمَا وأنَّهم يُثبتون أنَّ حَيَاتهم الرُّهبَانيَّة هي في طاعَة يَسوع المَسيح معتمدين في ذلِكَ على العَلاقة الحَميمَة مَع مَن اتَّخذوهَا أمّاً لهُم وعلى حِمَايَتِهَا والإقتِداء بهَا؛ لأنَّ حَيَاتهَا تعطيهم المِثال على التشبُّه بالمَسيح يَسوع (Const. p. 1 ch1.).
اجتمَعَ هؤلاء الكَرمَليِّين على مَحَبَّة العَذراء وإكرامِهَا، مِمَّا يَملأ حضورهَا حَيَاتهم التي نَبَتَت أصولهَا على جَبَل الكرمَل (خطابَات الرئيس العَام بيار ميُّيو، سنة 1282، في البَراءات الكَرمَليَّة الجزء الأوَّل ص رقم 606 – 607). كَمَا وأنَّهَا تسمَّت باسم المَكَان الذي كُرِّسَ على إسم العَذراء القدِّيسَة، والتزموا مَع موافقة الكَنيسَة لهم على العيش في طاعَة المَسيح يسوع وأمِّهِ مَريَم. وقد وعَى الكَرمَليّون على أهميَّة هذا الإلتزام وثبَّتوه، وذلِكَ على مِثال مؤسِّسيهم الَّذينَ جَعَلا مِن مَريَم أمّاً للرَّهبَانيَّة وسُلطانة لهَا (راجع كتاب التأسيسَات الفصل 29 رقم 23 و31 وكتاب المَنازل الثالثة الفصل الأوَّل رقم 3 و4) ومثالاً في التجرُّد في مسيرة الإيمَان هي التي كانت تتأمَّل في كلام الله وتنقادُ بإلهَام مِنَ الرّوح القدس، وتشَارك في سرّ المَسيح الفِصحيّ بالتسليم المطلق والفرح والمَحَبَّة والألم.
تُبرز مَريَم لهؤلاء الكَرمَليِّين والكَرمَليَّات صورة إنجيليَّة في غايَة الإيمَان، مقدِّمَةً لهم مثالاً كامِلاً لروح وحَيَاة رُهبَانيَّة تحثُّهُم فيهَا على الإقتداء بهَا بالتأمُّل المتواصِل في كلام الرَّبّ بالإيمَان.
إنَّ حَيَاة هؤلاء الكَرمَليِّين والكَرمَليَّات تَكْمُن بعَطاء الذَّات بالمَحَبَّة الكَامِلة والمتعدِّدة الأشكَال، وبهَذهِ المَحَبَّة يُطابقونَ حَيَاتهم على حَيَاة مَن اتَّخذوهَا أمّاً لهُم وشفيعَة، التي بواسطتِهَا وبقيَادَتِهَا يَدخلون في سِرّ المَسيح ابنِهَا وعروسَتِهِ الكَنيسَة المقدَّسَة.
بهذه الطريقة يَدخلون في علاقة الأبناء بأمِّهم متمِّمين نذورَهم المَوضوعَة تحتَ حِمَايَتِهَا وشَفاعَتِهَا، وهذا مَا يُعنى هنا بإكرام ثوب مَريَم، الَّذي بارتدائِهِ يؤكِّدون مَدى أهميَّة إنتِمَائِهم لهَا، واتِّخاذ سيرة حَيَاتِهَا وإيمَانِهَا وفضائِلِهَا مَثَلاً لهُم في طريقهم صوبَ القداسَة.

ثوب الكرمَل:
مع ضغوط العرب على الدولة الصليبيّة وسقوط القدس، اضطّرَّ كثيرٌ من الكرمليّين إلى تركِ جبل الكرمَل والتّوجّه إلى الغرب حيثُ لاقَت الرهبانيّة صعوبات جمّة للإستقرار وواجهت خطَر الإلغاء. فكان على الكرمليّين أن يجدوا لهم مكانًا ودورًا في كنيسة عصرهم وأن يتبنّوا صيغة من صِيَغ الحياة الرهبانيّة الموجودة. والتجأَ رئيسُهم العام، القدّيس سمعان ستوك إلى مريم العذراء، وتوسّلَ إليها طالبًا حمايتَها لإخوتها وأبنائِها. وكانَت صلاتُهُ ترتَفِعُ كالبخّور كلَّ يوم فيصلّي ويقول: "يا زهرَة الكرمَل، يا كرمةً مثمِرة، يا بهاءَ السّماء، يا مريَمَ العذراء، أنتِ وحدَكِ الأمّ الشفوقَة، العذراء المتواضعة، التي لم تعرِفْ رجلاً، أعطي أولادَكِ أبناءَ الكرمَل، إمتيازًا فريدًا، يا نجمَةَ البحر".
وفي 16 تموز سنة 1251، بينما كان القدّيس سمعان يصلّي صلاتَهُ المعهودَة، إذا بالعذراء مريم والدَة الإله، مصحوبةً بجوقاتٍ من الملائِكة، تظهرُ له وهي تحمِلُ في يَدِها ثوبَ الرهبانيّة وتقول: "هذا الإنعام لكَ ولأبنائِكَ من بعدِكَ، كلّ مَن يموت لابسًا هذا الثوب، ينال الحياةَ الأبديّة".
إنّ الرَّهبَانيَّة الكَرمليَّة المرتكزة ميزتهَا على الصلاة وعلى روح الرِّسَالة مِن روح إيليَّا. يتَّخِذ الكرمليّون والكَرمَليَّات، في نذورهِم الرّهبَانيَّة، مَريَم أماً لهُم وشفيعة ومثالاً. والثوب الكَرمَلي، "ثوب مَريَم سيِّدَة الكرمَل"، ليسَ سوى علامَة "أخوَّة" ورمز محبَّة العذراء لرهبَانيَّتها، وعنوان تكرّس الكَرمليِّين والكرمَليَّات لهَا ولابنِهَا يَسوع.
ومَا الثوب إلاَّ التكرُّس بكَامِل الإرادة لِمَريَم، لأكونَ على مِثال مَريَم في:

"وآخذكم من بين الأمم وأجمعكم من جميع الأراضي وآتي بكم إلى أرضكم .....و تسكنون الأرض التي أعطيت آباءكم إيَّاها وتكونون لي شعباً وأنا أكون لكم إلهاً." (حزقيال 28ـ24, 36)

مَريَم في ليتورجيَّة الحَيَاة الكَرمَليَّة:
يقول القدِّيس أمبروسيوس:"مريم هي صورة الكنيسة في الإيمان والمحبَّة والإتّحاد الكامل بالمسيح"، وحضورهَا في الليتورجيَّا الذي يُحيي حَيَاة الكَرمَلي والكَرمَليَّة، يَطبَع أيضاً، عَمَلهُم الرَّسولي والتَّأمُّلي بطابِعِهِ. لذلِكَ بتأمُّلهم في كَلِمة الحَيَاة أي الكِتاب المقدَّس، يَعمَلون في الإجتِهَاد على أن يَعرفوهَا مَعرفة أعمَق، منجذبين إلى مَحَبَّتِهَا ومظهرينَ إيَّاهَا مثالاً ومعلِّمَة للشركة مَعَ المَسيح والكنيسَة.
إنَّ كلَّ احتِفال وإكرام ليتورجي لأمِّ الله، يَتعزَّز على ضوء سِرّ المَسيح الفِصحي (راجع رسَالة البَابَا بولس السَّادس، في الإكرام المَريَمي، رقم 1 – 23)،  كذلك أيضا الليتورجية تجعل من مريم بالنسبة للكنيسة وللكرمَلي والكَرمَليَّة "المثال المقدَّس"، فالليتورجية بقدرتها على تأوين وعيش الحدث، تضع أمامهم، مريم بنت الناصرة، مثال للفضائل، مثال حي للعيش والسَّعي إلى القداسَة.

مَريَم في كتابَات قدِّيسي الكرمَل:
إنَّ إحدى أهم مميِّزات الروحانيَّة الكرمليَّة هو حضور مريم العذراء التي صارت مثالاً حيّاً ونموذجاً للإقتداء بالمسيح سعياً للإتحَاد بالله. يَعتبر الكرمليون والكَرمَليَّات مريم رفيقة، شريكة، أخت، أمّ، شفيعَة ومحاميَة يوجِّهون لهَا الإكرام الكلّي لدرجَةٍ أصبحَ الشعَار المعروف: "الكرمَل كلُّهُ مريَمي".
والعَذراء القدِّيسَة احتلَّت هذه المكانة المميَّزة عند قديسي الكرمَل، وهنا سوفَ نعرض بَعض القدِّيسين الَّذينَ تَركوا تراثاً غنيّاً عن دور مَريَم في حَيَاتهم واختبَاراتهم المميَّزة التي أصبَحَت كنزاً للكنيسَة جَمعَاء:

أمّنا القدِّيسَة تريزا ليَسوع (الأفيليَّة):
إنّ أمّنا القدِّيسَة تريزا ليَسوع (الأفيليّة) معلِّمَة الكنيسَة، لم تستطِع أن تفصِل كلّ خبرتهَا الروحيَّة عن مريَم. في مطالعتِنا لأعمَالهَا الكامِلة نلاحِظ الخلفيَّة المريميَّة والحضور المَريمي الغير مبَاشر والمبَاشر أحياناً في سيرتها كلِّهَا. مِن خِلال عقيدتهَا المركَّزة على إنسانيَّة المَسيح فتحَت القدِّيسَة تريزا ليَسوع الطريق أمام الكرمليِّين المعَاصرين طريق أساسهُ مريميّ بكليَّتِهِ. في المنازل السادسَة يَتوضَّح لنا فكر أعمَالهَا: كلَّمَا تقَدَّمت في خبرتِهَا الحياتيَّة، كلمَّا لاحَظتْ أنَّها لا تستطيع أن تفصِل المَسيح عن أمِّهِ. المسيح هو الجوهَر والبداية والنهاية ومن طفولتها اتَّخذَت تريزا العذراء القدِّيسَة عند موت والدتها أمّاً لهَا تقول:
"مَضَيْتُ محزونةَ الصدر إلى صورةٍ للسيدة العذراء وتوسّلتُ إليها بدموع غزيرة لتكون أماً لي، وأعتقد أنَّ طلبي، على البسَاطة التي صُغْتُهُ فيها، لقِيَ لديهَا قبولاً، فقد لقيتُ استجابة لدى هذه العذراء الساميَة كلَّما توسَّلتُ إليهَا، حتى جَعَلَتْني، أخيراً، في خاصَّتِهَا".
بالنسبَة لتريزا، الكرمل هو رهبَنة مريم بامتِيَاز، والقوانين الكرمليَّة هي قوانين مريميَّة: "أديار الرهبنة الكرمليّة هي بيوت مريم، الرهبان والراهبات هم فرسَان مريم. الكرمليين والكرمليَّات هم أولاد مريَم وحياتهم مكرَّسة لخدمة مريم التي هي كَمَا كانت تسمِّيهَا: "الأميرة، المَلكَة، الإمبراطورة".
أمَّا الثوب الكرملي أكَّدت عليه تريزا ليسوع إذ قالت أنَّهُ علامة تربطنا بالعذراء القدِّيسَة والبرهان على ذلِك أنَّنا مِن خاصَّة مَريَم. كانت تنادي الراهبات: ببنات مريم العذراء وتطلب منهم الإقتداء بها في كلّ شيء خاصة بالصمت والتأمل. ولكن أهم رابط لتريزا بالعذراء القدِّيسَة هو رؤيتها مراراً أثناء بداية الإصلاح الكرملي وتأسيس الأديار. في 15 آب كانت تريزا في كنيسة دير القديس المجيد عبد الأحد وترى في انخطاف إذ تقول: "يلبسونني ثوباً أبيض ناصعاً وضّاءً، وما كنتُ أرى، في البدء، مَن يُلبسني إيَّاه، ثمَّ شاهدتُ إلى يميني السيِّدة العذراء وإلى يساري أبي القدِّيس يوسف يلبسَانني ذلكَ الثوب... وما إن توشَّحتُ بذلكَ الثَّوب وأنا في لذةٍ فائقةٍ وسعادة، حتى خلتُ السيِّدة العذراء تُمسِكُ بِيَدَيَّ قائِلةً لي أنه يَسُرُّها كثيراً أن أخدُمَ القدِّيس يوسف المَجيد، وعليَّ أن أثِق بأنَّ إنشاء الدَّير سيتمّ. إنَّ جمَال السيِّدة العذراء الذي رأيته كان رائعاً".
باختصار بالنسبة لتريزا ليسوع إنَّ العذراء الطوبَاويَّة هي نموذج حقيقيّ للإقتداء بالرَّبّ يَسوع والمشارَكَة بالتأمل في سرِّهِ العظيم.

أبينا القدِّيس يوحنَّا للصليب:
إنّ أبينا القدِّيس يوحنا للصليب هو معلِّم الكنيسة، أنقذتهُ العذراء القدِّيسَة من الغرق ولهُ مِنَ العُمر 5 سنوات. أمضى حياتهُ كلَّها تحت حماية الأمّ السَّماويَّة التي أنقذتهُ ولأكثَر من مرَّة مِن مواقف كثيرة صعبة وخطرة منها الهروب من السجن. علَّمَ إخوتهُ الرُّهبَان الإكرام لِمَريَم العَذراء وطلب شفاعَتِهَا وحِمَايَتِهَا في كلِّ حين. إنَّ تَدَخُّل مريم العَذراء لحظة موتهِ إعترافٌ كبير وتأكيد على أهميَّة ثوب الكرمل وخلاص النفوس بالإنعام الذي قدَّمتهُ العذراء القدِّيسَة للعالم: " كلّ من يلبَس هذا الثوب بِتَقوى وإيمَان يخلص أوَّلَ سبتٍ بعد وفاتِه"، ويوحنَّا للصليب موتهُ كانَ مريميّاً بامتيَاز. إذ في يَوم 7 مِن كانون الأول يحتفِل الكرمَل والكنيسة في العَالم بعيد الحبل بلا دنس، وفي مِثل هذا اليوم عرفَ يوحنا متى وأيَّة ساعة يَموت، وقال: "مباركةٌ هي سيِّدتنا التي ستُخرجني من هذهِ الحيَاة إلى السَّماء مباشرة حيثُ سأصلّي فرضَ الصباح معَها"، وذلك في 14 كانون الأول". في يوم الجمعة 13 مِن كانون الأول الساعة 5 بعد الظهر يقول لإخوتِهِ الرهبان: "أنا سعيد لأني بدون استحقاق سوف أكون هذه الليلة في السماء"، وعند منتصف الليل أي بدء يَوم السبت، يقول يوحنا:

In Manus tuas, Domine, commendo spitium meum"
" في يديك يا ربّ أستودعُ روحي".

القدِّيسة تريز الطفل يسوع والوجه الأقدس:
مرضَتْ تريز في صغرهَا وأصبحَت حالتهَا خطرة جداً. ولكنَّهَا لم تتحمَّل الأوجاع ولم تَعُد تجد أيَّة مَعونة وأمَل مِنَ الأرض فالتفتت نحو تمثال العذراء القدِّيسَة ملتمِسَةً منها ومِن كلِّ قلبها أن ترأفَ بحالتهَا تقول تريز: "وبغتةً ظهرت لي العذراء القدِّيسة جميلة، جميلة حتَّى أنِّي لم أكن قد رأيتُ قطّ مثلَ هذا الجمَال، وكان وجهُهَا يتدفَّق عذوبةً وحناناً لا يوصَف. إلاّ أنَّ ما خرق أعمَاق نفسي كانت إبتسامَة العذرَاء القدِّيسَة الخلاَّبة. فتلاشَت عندهَا جميع غمومي وسَالت دمعتان كبيرتان من مقلتيَّ وتدحرجتا بصمتٍ على خديّ... ففكرتُ أنَّ العذراء قد ابتسَمَتْ لي فكم أنا سعيدة..."
رافقت العذراء القدِّيسَة تريز كلَّ حياتها وفي أثناء مرضهَا الأخير قالت لأختها سيلين: "لقد حلمتُ دوماً بأن أكتبَ نشيداً أعبِّرُ فيه للعذراء عن رأيي فيها".
وفي الفترة الأخيرة من حياتهَا شعَرت تريز إنهُ من المحتمَل نشرُ كتاباتهَا فاعتبرت أفكارهَا حول مريم كجزء مكمّل للَّذي قد قامَت بهِ. ولكي تقول الأمور بموضوعية أكثر فتحت الإنجيل المقدَّس متأمِّلة في حياة البَتول القدِّيسَة. لا تستطيع تريز أن تتغذَّى إلاَّ مِنَ الحقيقة أي من الإنجيل. فكانت قصيدة رائعة من 200 بيت كأنَّها نشيد ليتورجي ختمَت فيه أعمَالهَا الشعريَّة بعنوان:"لماذا أحبك يا مريم" وهنا سنتناوَل بعض المقاطِع مِن هذا النشيد المَريَمي.

الطوباويَّة إليزابيت للثالوث:
أمَّا الطوباوية إليزابيت للثالوث فكانت مريَم بالنسبة لها "مدرسة حياة". ولم يَستطِع أحَد أن يفهَم ويُدْرِكْ سرَّ المسيح بالعُمق مثلَ مريم. تأمَّلت بمَريَم مِنَ البشَارة التي أرجَعَهَا إلى أهَمّ موضوع شغلهَا كلّ حياتهَا وهو: "سُكنى الثالوث".
تقول إليزابيت: "بقدوم الثلاثة إليهَا، كلَ السمَاء انفتحَت ومَالت وانحَنَت تعبُد السرّ، هذا الإله الذي تجسَّدَ في هذه العذراء الأم" وعلى غرار العَذراء القدِّيسَة تطلب إليزابيت من الروح القدس: "أيتها النَّار المحرقة، يا روحَ المحبَّة، تعال إليَّ لكي يتحقق في نفسي مثل تجسُّد الكلمَة، فأكون له ناسوتاً آخر فيه يجدِّد كلَّ سرِّه... سأنضم وأتَّحد بنفس العذراء حين غمَرها الآب بظلِّه في الوقت الذي تجسَّدَ الكلمَة فيهَا وحقَّق الروح القدس أكبرَ سرّ"...
          "فبقلبها عاشت لأنَّ كل شيء كان يحدث بداخلها"...استرعى انتبَاه إليزابيت رقَّة ولطف ومهَارَة المحبَّة عند مريم. عاشت أمُّ الله كلَّ الأحداث بتناغم رائع: التأمل والعمَل - الإنتباه للآخرين والتعبُّد - إعتدال وعناية فائقة بالخِدمة - كلّ شيء لديهَا هو انعكَاس لتوازن فائق الطبيعَة كونهَا مستغرقة بالتأمل الداخلي بالكلمة / الله.
ولتصبح مسيحاً آخر وضَعَت إليزابيت نفسها في مدرسة مريم "أم النعمة هذه سَتُنَشَىءْ نفسي كي تصبح ابنتهَا الصغيرة صورة حيَّة لمولودهَا الأوَّل، الإبن الأبديّ الذي كانَ أكمَل تسبحة مجد للآب".
هذه الأمّ القدِّيسَة علَّمت إليزابيت كيف تعيش الآلام والموت: "إنَّها هنا على أقدام الصليب، واقفة، بقوَّة ومهَارَة وشجَاعة وبطولة، وها هو معلِّمي يقول لي:"هذه أمكِ" وهبني إيَّاها كأمّ... والآن بمَا أنَّه صَعِدَ عند الآب، واستبدلني مكانهُ على الصليب لأتألَّم بجسدي ما نقصَ من آلام لجسده الذي هو الكنيسة، فالعذراء ما زالت واقفة لتعلِّمني كيفَ أتألَّم لأجلِهِ ولتقول لي ولتُسمعني الترانيم الأخيرة لنفسه التي لا أحد سواها، أمه، استطاع سماعهَا وفهمهَا".

القدِّيسة تريزا ليسوع (دي لوس أندس).
القدِّيسة تريزا ليَسوع (دي لوس أندس). تشيلية توفيت بعمر 19 سنة، أي 9 أشهر بعد دخولهَا دير الكرمَل، أعلنتهَا الكَنيسَة فيمَا بَعد قدِّيسَة. كتبَت صلاتهَا الشهيرة للعَذراء القدِّيسَة تقول فيها: "نعم، مريم، إنتِ أمُّ الكون كلِّه. قلبكِ مملوءٌ عذوبة. على قدميكِ يسجُد بنفس الإيمان الرَّاهب والعذراء فيلقيان بين يديكِ الحبّ ثمرة أحشاءك. الغنيّ والفقير فيجدان في قلبكِ، السَّماء. المحزون والسعيد يجدان البسمَة السماويَّة. المريض والمعافى يجدان نعومة ملاطفة يديك وأخيراً الخاطىء مثلي يجد فيكِ الأمّ المحامية التي تحتَ قدمِكِ البريء من كلِّ دنس انهزم رأس التنين، أما في عينيكِ يكتشفُ الرَّحمة، السمَاح والمنارة المضيئة التي تمنعُهُ من الوقوع في مياه الخطيئة الموحِلة".

الطوبَاويَّة تريزا مَاريَّا للصليب:
كانَت مَريَم لتريزا المِثال في قبول الدَّعوة إلى الكرمَل، مِنهَا تعَلَّمَت قبول الدَّعوَة إلى القداسَة، أي الإنعِزال والإنفِصَال الكُلِّي عَن كلّ مَا هو خارج الله وهذا ليسَ هَرَباً مِنَ المَادَّة والعَالم إنَّمَا لإعطاء المادَّة البُعد الإلهي أي أن يَحِلَّ الله في واقِعِهَا وتأسيسَاتِهَا ورسَالتِهَا وذلِكَ مِن خلال وضع إرادَتِهَا في خِدمَة إرادتِهِ. ردَّدت ذاتَ يَومٍ مَا قالهُ مَسيحُهَا: "لتكُن مَشيئَتُكَ".
قبلَ انتِقالِهَا إلى مَلكوت المَحَبَّة والسَّلام والمُصَالحَة، جَاءَ الحضور السِرّي للسيِّدة العَذراء يَضَعُ بَلسَماً وعَزاءً على عَذابَاتِهَا، فتقول: "اليَوم، رأيتُ السيِّدة. رايتُهَا أوَّلاً الحَزينة مَعَ صليبٍ على قلبهَا؛ ثمَّ بَدَتْ النقيَّة يَغمُرُهَا نورٌ سَمَاويّ. كَانَت على جَمَالٍ، وأيُّ جَمَال...!".
إنطلقت العَذراء القدِّيسَة نحو القريب إنطلاقاً مِن حبِّهَا لله، وخدَمَتْ الجَمَاعَة الأولى التي صارَت على الصليب أماً وابنُهُ لهَا في الوقتِ نفسِهِ. وتريزا في نهَايَة مَسيرَتِهَا على هذِهِ الأرض، حَمَلَتْ إلى الوَطن السَّمَاوي أخوتَهَا الكَرمَليِّين وأخواتِهَا الكَرمَليَّات، عِلماً ويَقيناً مِنهَا أنَّ البُعد السَّمَاوي وحدهُ سوفَ يُعطي العَائِلة الكَرمَليَّة مِلئَهَا وسَبَبَ وجودِهَا.

مَريَم إمرأة الصمت والإختلاء:
لقد اكتشَفَ الكَرمَليّون والكرمَليَّات شخصَ والِدة الإله في الكتاب المقدَّس وليس في الكتب والدراسَات اللاَّهوتيَّة. فرأوا فيها، بعد يسوع المَسيح، التسبحَة الكاملة لمجد الآب. مَريَم في مفهومهم هي "العذراء الأمينة، والأمّ القدِّيسَة"، تلك التي كانت "تحفظ كلَّ شيء وتتأمَّلُهَا في قلبها"، وكما تقول الطوباويَّة إليزابيت للثالوث الكرمَليَّة: "لم يُدرك أحدٌ سِرَّ المَسيح في عمقِهِ، اللهمَّ إلاَّ العَذراء مَريَم. وقد اطَّلعَ كلّ من يوحنَّا والمجدليَّة على السرّ الذي لم يطَّلع عليه بنو البشر: ويتكلَّم القديس بولس مراراً عن "النعمة التي وُهِبَت لهُ" (أف 3\3 – 4)، وَمَعَ ذلك فإنَّ جميع القدِّيسين يبقون في الظلّ عندما ننظر إلى أنوار العذراء!" (الرياضة الأخيرة،2). ويرى الكرمليون والكرمليات في مريم التعبير الأمثل والأكمل عن دعوتهم الشخصيَّة وذلك على ضوء اختبارهم، إختبَار الألم، والتسليم، والحُبّ، والرغبة في مشابهة عريسهم السَّمَاوي يَسوع. كمَا ويفضِّلون أن يَروا في أمِّ الله إمرأة الصمت والإختلاء، وهي تسبحة المَجد الكاملة للثالوث الأقدَس، وهي عذراء التجسُّد التي تجسَّدَ الكلمة الساكن في أحشائِهَا وصارَ بَشَراً.

مَريَم في الحَيَاة الكَرمَليَّة:
ينظر الكرمليّون والكَرمَليات إلى مَريَم ويَروا فيها ليس أمّ المَسيح فحسب بل أمُّهم أيضاً. إنَّهَا تمثِّل وتعبِّر أيضاً عن الموقف الأساسي  للنفس تجاه الله. فهي لا توجز العهد القديم فحسب، بل تمثِّل البشريَّة كلَّها. إنها نفس البشريَّة العطشى إلى الله، والتي تنتظرهُ وترجوه وتوجِّه إليه جميع قواها وطاقاتِهَا، لكي تتلقَّاه وتعيش منهُ عيشاً كاملاً. وَمَريَم أيضاً محط تجاوب مع الله وموضوع حلوله. ففيهَا تعي البَشَريَّة شوق الله ورغبتُهُ الفعَّالة في إعطاء ذاتِهِ للإنسان. ومَريَم هي موضِع اللقاء، أو بالأحرى هي الهيكل الذي فيه يتِمّ إتحاد الله مَعَ البَشريَّة، المَعبَد الخفيّ الذي فيه يقترن العريس بعروسِهِ، والبريَّة التي تزهر بأنفاس روح الله.
إنَّ مَريَم هي نموذج للنفس. إذ ليس لمريم منذ وجودها الأوَّل مِن حياة سوى الله، ومِن هَدَف سوى معرفتِهِ ومَحَبَّتِهِ بصفاء وإعطائِهِ المَجَال لكي يُحقِّق فيها تصاميم حبِّهِ اللامتناهي. والكرمليون على مثال مَريَم (لوقا 2: 19) يحاولون سماع كلام الله والتأمّل فيه "ليلاً ونهاراً". فإنَّ مَريَم في نظرة الكرمليِّين والكرمَليَّات ليست تلك الأمّ العجيبة والحبيبة فحَسب، بل هي الغمامة التي اختارها الله وقادها لتكونَ أمّ المخلِّص، وهي أطهر وأسمى وأكمَل تعبير عن النفس التي تتفتَّح لِعَمَل الله والتي تكتمل في نوره وفي مَحَبَّتِهِ. فهي بذلك أكمَل نفس متطلِّعَة. ولقد لعِبَتْ مريَم دوراً هاماً في حياة جميع قديسي الكرمَل، مِن القديس سمعان ستوك الكرملي، إلى القديسة تريزيا ليسوع الأفيليَّة الكرمليَّة ويوحنا الصليب الكَرمَلي وإلى القديسَة تريز الطفل يسوع والوجه الأقدَسْ الكَرمَليَّة إلخ.
مَريَم هي الغمامَة النقيَّة التي حَمَلتْ بالأسمى، مَريَم هي مَسكن الله، وهي الخَبَاء المُقدَّسْ، هي التي استقبلتْ إبن الله في أحشائِها وَعَبَدتهُ بالروح والحَقّ (يو 33، 4). مَريَم هي امرأة الصلاة. ويرى الكرمليّون والكرمَليَّاتْ أنَّ موقف مَريَم مِن البشارة حتى الميلاد هو نموذج لكلّ الأنفس التي تحيا حياة داخليَّة. موقف مريَم في تلك الفترة، كانَ موقف حبّ، تألَّهَتْ بها الأمور التي كانت أكثر تفاهة. مَريَم هي الأمّ التي سوف تصقل نفوسَ أبنائِها الكَرمَليِّين وبناتِها الكَرمَليَّات لتصبحَ أكثر مشابهةً للمسيح، وهي التي ستعلِّمهم أن يتألموا معهُ. وكمَا تقول الطوباويَّة اليزابيت للثالوث الكرمَليَّة: "وإنِّي لأرى العَذراء القدِّيسة واقفة بجانبي لكي تعلِّمني كيفَ أتألَّمَ مثلهُ، ولكي تبلغ إلى مَسامعي آخر نغمات نفس الحبيب، تلكَ النغمات الشجيَّة التي لم يَسمَعَها أحدٌ سواها، هي ... أمُّه!" (الرياضة الروحيَّة، 41). وأخيراً مَريَم هي "باب السَّماء" التي سوفَ تُدخِلُ أبنائِهَا الكَرمَليِّين وبناتِها الكَرمَليَّاتْ إلى المَساكِن الأبَديَّة، هامسةً إليهم "فرحتُ بالقائلينَ لي: إلى بيت الرَّبِّ ننطلِقُ" (مز 121\ 1).

خاتِمَة:
تبقى مريم صورة الكنيسة وأمِّها، قدَّمت ذاتها لله بكليَّتِهَا، وهذه الكلِّيَّة تحتوي المشورات الإنجيليَّة، حبّاً بالمَسيح العروس والفادي.
أختم مِن رسَالة البَابَا يوحنَّا بولس الثاني بمناسَبَة اليوبيل المنصرمَة الخاصَّة بالذِكرى 750 لإنعَام الثَّوب المقدَّس: "مَريَم العَذراء أمّ الله، ليسَت فقط مِثالاً يُحتذى، بَل حضورٌ لطيف لأمٍّ وأختٍ يوثَقُ بهَا. ومَن يَتَّشِح بالثوب يَدخُلُ إلى أرض الكرمَل لكي يأكُل مِن ثِمَارِهِ وأطايبِهِ (إرمِيَا 2\7)، ويَختبر حضور مَريَم الوالدي اللطيف، مِن خلال التزامِهِ، كلّ يَوم، أن يَلبَسَ، في البَاطِن، المَسيح يَسوع، ويُظهِرهُ حيّاً في نفسِهِ مِن أجل خير الكَنيسَة والبَشَريَّة كلِّهَا. ولدينا مِثال رائِع على هذه الرّوحَانيَّة المَريَميَّة التي تطبَع الأشخاص في الصميم، وتصوِّر فيهم صورة المَسيح البكر لأخوةٍ كثيرين، في شَهَادات القداسَة والحِكمَة التي يُقدِّمهَا كثيرون مِن قدِّيسي الكرمَل وقدِّيسَاتِهِ، وقد كبُروا في ظِلّ هذه الأمّ وتحتَ كَنَفِهَا".                      
الأب نوهرا صفير الكَرمَلي

Le Prophète Elie

La Règle Du Carmel

Marie Dans Notre Vie

L'oraison