كتابة الأخ أنطوان (رزق) ليسوع
(من الرّهبانيّة العلمانيَّة للكرمَليِّين الحُفاة – لبنان)
في القرن السابع عشر، انتشرت عبادة الإكرام لقلب يسوع الأقدس، مع القديسة مارغريت-ماري ألاَكوك التي ظهر لها يسوع وطلب منها التعبُّدَ لقلبه الرَّحيم. وُلدت القديسة الفرنسيّة الأصل سنة 1647 في عائلة ملتزمة مسيحيًّا وتقيَّة. ودخلت دير راهبات الزيارة عن عمر 43 عامًا، وتُعيّد لها الكنيسة المقدَّسَة في 17 تشرين الأوّل من كلّ سنة.
كانت ظهورات الرَّبّ يسوع لها كثيرة. والكنيسة تذكر منها أربع ظهورات، في كلّ مرَّة كان الرَّبّ يشير إلى قلبه الأقدس الخارج من صدره ليعبِّر عن أسفه الشديد لنكران الناس له. وهو نفسُه حدّد لها بأن تحتفِلَ الكنيسَة الجامِعَة بعيد قلبه الأقدس يوم الجمعة الَّذي يقع بعد الخميس أو أحد عيد جسده ودمِه الأقدَسَين بأسبوع. وبناءً على ذلك بدأ الاحتفال بهذا العيد من عام 1685.
(إنجيل لوقا 6: 36) "فَكُونُوا رُحَمَاءَ، كَمَا أَنَّ أَبَاكُمْ أَيْضًا رَحِيم".
(إنجيل متى 11: 29): "اِحْمِلُوا نِيرِي وتتلمذوا لي...، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ".
نتوقَّف اليوم عند إنجيل لوقا ومتَّى، وفي نصّ كلٍّ منهما، يدعونا الرَّبّ لاختبار دعوة ملؤها الرَّحمَة، لأنَّ لقاءنا معه حول كلمتِهِ، هو أكبر رمز لعَمَل الرَّحمة، فكلُّ عطيِّةٍ هي منه، وهو دائمًا على استعداد لأن يعطيَنا كلّ العطايَا الَّتي تمجِّد اسمه.
هذه العَطايَا التي تفيض من الرَّحمة، هي قادرة على أن تقوِّي إيمَاننا، وتقدِّس حَيَاتنا، وتغنينا في الوقتِ نفسِهِ مِن كلمته، التي يقول لنا فيها عند لوقا الإنجيلي الفصل 11 الآية 13: : "إن كنتم أنتم الأشرار، تعطون العطايا الصالحة لأولادكم، فكم بالأحرى أبوكم السماوي يمنح الروح القدس لمن يسأله".
بمجرَّد ما يقوله لنا في كلمته: "أعطوا"، يعني أنَّهُ يريدُنا أن نعطي بعطاء كَامِل. والأعياد التي نحياها مَع الكنيسَة الأمّ، هي أكبر دعوة لكلّ عمَل رحمة، ولكلّ عطاء نقوم به لأنّه في مكانٍ آخر يقول لنا الرَّبّ في إنجيل القدِّيس لوقا الفصل 12 الآية 33: "تصدّقوا بما لديكم، فيكون لكم كنز في السماء" . في قلب هذا العطاء يجب ألا يكون لدينا في الوقت نفسِهِ أيّ تعلُّق بالماديَّات، وحتَّى في أنَّهُ يجب ألاَّ تكون لدينا ميول للطمع، وحبّ الذات.
إنَّ دعوة يسوع لنا اليوم هي أن نمشي ونعمَل كلّ شيء بحسب مشيئتِهِ، وأن نحرص على أن نكون على صورته وكمثاله، بكلّ عَمَل رحمة، وعطاء، وخير، ومحبِّة. ففي الوقت عينه، كلّ كلمة من هذه الكلمَات ممتلئة من التشجيع والتوجيه الَّذي يذكِّرنا في كلمات الرَّبّ عند إنجيل مرقس الفصل 4 الآية 11: "لقد أُعطيتم مفتاح أسرار ملكوت السماء".
نحن في قلب يسوع، وفيه تتجلَّى الكلمَات التي تُظهِر كيف أنَّ الله يربط دائمًا عمل الرَّحمة بالإيمَان، وعندما يغيب هذا الإيمَان، عندها تقتصر العطايَا والصدقات كلّها على المصالح لا على الرَّحمة.
إنَّ الله قد خصّص هاتين الفضيلتين: "العطاء والصدقة" بكثير من الآيَات في العهدين القديم والجديد. وهي كلَّهَا تتكلَّم عن مواعيده مَع الإنسَان شرط أن يكون الإنسَان قد وَصَلَ إلى مرحلة النضوج، ليكون أهلاً لمعرفة كيف يجب عليه أن يتصرَّف بالخيرات كلّها. عندها نستطيع أن نعرف كيف نحيا كلام الرَّبّ كما يقول لنا في إنجيل لوقا الفصل 3 الآية 11: "مَنْ له ثوبان فليعطِ من ليس له، ومن له الطعام فليعطِ أيضاً" وهنا أيضًا نرى كيف أنَّ الله رفع أهميِّة العطاء والرَّحمة: "إن العطاء أكثر غبطة من الأخذ" أعمال 20/35.
دعوتنا كمَسيحيِّين، نكون متواضعي القلوب، في كلِّ عَمَل رحمة لنحصل على غفران الخطايَا التي نراها في: أمثال 15/27: "بالصدقات والإيمان، تكفّر الخطايا"، "من أعطى المعوز لا يدركه الفقر" أمثال 28/27، "الصدّيق يرأف ويقرض، وذريّته مباركة" مزمور 36/26.
إذا عدنا إلى الكتاب المقدَّس نرى أنَّهُ غنيٌّ بالتشجيع على الرَّحمَة في الكثير من آياته.
إنَّ إرادة الله هي دائمًا أن نساعد بعضنا، وأن نقف إلى جانب بعضنا، ونقوِّي بعضنا بالمحبّة وتواضع القلب، والله نفسه ترك لنا المبادرة، لنكتشف قيمة الطاعة، قائلاً: "أعطوا تُعطوا"، "أطلبوا تجدوا"، "إقرعوا يفتح لكم"، "سامحوا أسامحكم"، "تعالوا إليّ فأريحكم".
هو هنا، ويريدُ منا عطاءً مملوءً من الإيمان، مثل إيمان الزارع الذي يزرع بحبّ، على أن يحصد فيما بعد، ومثل التاجر الذي يشتري أولًا، وفيما بعد يبيع محققًا الأرباح، وما بين الزرع والحصاد، يمتحن الله إيماننا ويمتحنُنا ليعرف مقدار محبَّتنا وطاعتنا لهُ واستسلامنا بين يديه.
كلّ عمَل رحمة هو رحمة للفقير، وبركة للمعطي، وتمجيد لله، وهو أعظم وسيلة لننشر العدل، والمساواة، والمحبّة بين الإخوة الَّذين هم كلُّهم أبناء الله.
ولا بدّ لنا من أن نتأمل في وصيّة القديس بولس بهذا الخصوص: "أوصي أغنياء هذا الدهر أن لا يستكبروا، وأن لا يتوكّلوا على أموال لا ثبات لها، بل ليتوكّلوا على الله الحي، الذي يعطينا كل شيء بوفرة لنتمتع به، وليصنع الجميع الخير، وليغتنوا بالأعمال الصالحة، وليشركوا المحتاجين في خيراتهم، كي يفوزوا بالحياة الأبدية". (1تيموتاوس 6/ 17).
في قلب يسوع الأقدس، لقاء مع الرَّحمة هو القائل: (إنجيل متى 11: 29): "إحْمِلُوا نِيرِي وتتلمذوا لي...، لأَنِّي وَدِيعٌ وَمُتَوَاضِعُ الْقَلْبِ، فَتَجِدُوا رَاحَةً لِنُفُوسِكُمْ".
إنَّ النِّعمة هي نظرة رحمة، وأكبر مثال لنا هو القدِّيسة تريز الطِفِل يَسوع التي وهي من قلب كرمَلهَا اختبرت عمق الحبّ والرَّحمة وتشبَّهت بيسوع الوديع والمتواضع القلب في كلّ شي يحمله من معاني السلام والرَّحمَة، ودخلت هي نفسها، في هذه العلاقة حتَّى اختبرت عمق الطفولة الرّوحيِّة. إنَّ يسوع الوديع والمتواضع القلب هو أجمَل صورةٍ لنا لكي نكون عبر كلِّ عمَل نقوم فيه شهودًا لحضوره في حياتنا من خلال كلّ عَمَل رحمة نقوم فيه مَع أخينا الإنسَان الَّذي في وجهه نكتشف وجه يسوع المتجلِّي فينا.
نحن نستقي الحُبّ من قلب يسوع الطاهر الَّذي يُحبّنا من دون قيدٍ أو شرط، ومن هذا الحُبّ وبفعل النّعمة، وعمل الرّوح في ذواتنا المستسلمة لإرادتهِ، تفيضُ رحمة يسوع من خلال حبّنا للآخر الغير مشروط، وأعمالنا نحوهُ. آمين.