تريزا ليسوع (دي لوس أَنْدِسْ) وكَلِمَة الله
كتابة: الأخت نور يمّين الكرمَليّة
(الراهبات الكرمَليَّات للقدّيسة تريزا ليسوع فلورنسا)
"منذ كنتُ صغيرة كانوا يقولون لي أنَّني الأكثر لطافة بين إخوتي، وهذا ما كنتُ أعيه. لكن هذه الكلمات كانت تتردَّد على مسمعي عندما صرتُ أكبر سنًّا... وحده الله يعرف كم كلَّفني تدمير هذا الغرور والعُجب بالنفس الذي تملّك بقلبي عندما كبرتُ".
مع هذه الكلمات لتريزا ليسوع دي لوس أندس (خوانيتا فرنانديز سولار) نبدأ رحلة اكتشاف، ولو بسيطة، لعلاقتها بكلمة الله وعيشها إيّاها بطريقة حيّة تشهد من خلالها على "الكلمة" الحيّ في داخلها.
قد لا نجد في كتاباتها (دفتر الـمذكرات والرسائل) العديد من العبارات الإنجيليَّة أو الكتابيَّة، لكنَّها تعبّر عنها بطريقة تفكيرٍ بسيطة وواضحة.
على سبيل المثال، نجد في بداية دفتر المذكّرات، تحديدًا في الإهداء الموجَّه إلى راهبتها المفضَّلة، هذه العبارة: "قصة نفسي يمكن إختصارها بكلمتين: التألم والحبّ souffrir et aimer"؛ وهاتان الكلمتان تُشكّلان معًا معنى كلمَة Passion المرتبطة بحياة الرّب يسوع المسيح، وهي كلمة تختصر رسالته: "فلم يعدّ مساواته لله غنيمة، بل أخلى ذاته متخذًا صورة العبد، طائعًا حتى الموت على الصليب" (فيليبي 2: 6-8). فأن نجد هذه الكلمات في مقدّمة كتابات صبيَّة صغيرة تُعبّر فيها عن معنى وجودِهَا وقصَّتها، يدلّنا على عمق ما بدأ كيانها يعيش من إتّحادٍ بالكلمَة الحيّ.
علينا أن نسلِّم أَنَّ القِيَم والقناعَات الَّتي تتحدَّث عنها كانت راسخة فيها بإيمان، فليس مِنَ السهل لإبنة العشر سنوات أن تتكلَّم عن نكران الذات والألم حين تروي اتّحادها الأوَّل بجسد الرَّبّ في المناولة الإحتفاليَّة، وكيف أصبح الرَّبّ يسوع حاضرًا حيًّا فيها وهي تَعِي النِّعَم التي يسكبهَا عليها.
كذلك في فترة مرضهَا بعمر الثالثة عشر وفي الوحدة الَّتي عاشتها بسبب عزلتها المرضيَّة، شعرت بحضور الرَّبّ يقوّيها ويطلب منها أن تكون "رفيقة وحدتِه في بيت القربان". فيعود بنا هذا التعبير إلى بستان الزيتون ووحدة الرَّبّ فيه. وما كان أن عبَّرت تريزا في مذكراتها عن هذه الحالة بقولها: "في هذه الفترة لم أعد أنا من يحيا، بل يسوع يحيا بداخلي" (غلاطية 2: 20).
إنَّ القداسة هي بالإقتداء بالمسيح، وبعيش الإنجيل بأفضل طريقة. ومع ذلك يعيش كلّ قدّيس الإنجيل بطريقة معيَّنة. فما ميزة قداسَة تريزا دي لوس أندس، هذه الراهبة الكرمَليَّة الحافية؟ سنسعى لتسليط الضوء على بضع نقاط:
الصلاة:
فهمت خوانيتا أنَّ الصلاة ضروريَّة للعيش متّحدين مع المسيح. منذ طفولتها كانت تكرِّسُ الوقت للصلاة الصامتة. حاولت أن تعيش باستمرار في حضرة الله. في رسائلها تشجّع أفراد عائلتهَا وأصدقائهَا على الصلاة. كانت رسولة صلاة. قالت: "الرَّبّ هو نعيمي هنا أدناه. أنا أعيش معهُ. حتى عندما أمشي، نتحدَّث معًا دون أن يقاطعَنا أحَد. إذا كنتَ تعرفه بما فيه الكفاية، فستحبّه. إذا كنت ستبقى معهُ لمدَّة ساعة واحدة، ستعرف الجنّة على الأرض" (رسالة 40).وأيضًا، "أستطيع أن أقول إنَّ حياتي صلاة مستمرة، لأنَّ كلّ ما أقومُ بهِ، أقومُ بهِ بدافع الحبّ من أجل يسوع" (رسالة 52).
التضحية:
أن نضع محبَّة المسيح فوق كلّ شيء آخر، يتطلَّب بالضرورة تضحيات. بالنسبة لتضحية خوانيتا، تألَّفت بشكلٍ رئيسيّ من نبذ إرادتها لتفضّل دائمًا إرادة الله، في نسيان نفسها لمساعدة وخدمة الآخرين. قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: "طَعَامِي أَنْ أَعْمَلَ مَشِيئَةَ الَّذِي أَرْسَلَنِي وَأُتَمِّمَ عَمَلَهُ". (يوحنا 4: 34)
"نحن بحاجة إلى التضحية، والتخلّي عن إرادتنا للوصول إلى الاتّحاد الكامل مع ربّنا" (رسالة 39). وبالنسبة لخوانيتا، كانت إحدى أكبر التضحيات في حياتها هي ترك عائلتها التي أحبَّتها كثيرًا لتتبع المسيح."مَنْ أَحَبَّ أَبًا أَوْ أُمًّا أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي، وَمَنْ أَحَبَّ ابْنًا أَوِ ابْنَةً أَكْثَرَ مِنِّي فَلاَ يَسْتَحِقُّنِي". (متى 10: 37).
الفرح:
من المؤكَّد، وبشهادة معاصريها، أنَّ الفرح هو أحد أكثر جوانب قداسة تريزا لفتًا للنظر. قالت: "لقد فهمتُ أنَّ الله فرحٌ لا ينتهي". قالَ الرَّبُّ يَسُوعُ لِتَلاميذِهِ: "كَمَا أَحَبَّنِي الآب، كَذلِكَ أَنَا أَحْبَبْتُكُم. أُثْبُتُوا في محَبَّتِي. إِنْ تَحْفَظُوا وصَايَايَ تَثْبُتُوا في مَحَبَّتِي، كَمَا حَفِظْتُ وَصَايَا أَبِي وأَنَا ثَابِتٌ في مَحَبَّتِهِ. كَلَّمْتُكُم بِهذَا لِيَكُونَ فَرَحِي فِيكُم، فَيَكْتَمِلَ فَرَحُكُم. هذِهِ هِيَ وَصِيَّتِي أَنْ تُحِبُّوا بَعْضُكُم بَعْضًا كَمَا أَنَا أَحْبَبْتُكُم. لَيْسَ لأَحَدٍ حُبٌّ أَعْظَمُ مِنْ هذَا، وهُوَ أَنْ يَبْذُلَ الإِنْسَانُ نَفْسَهُ في سَبِيلِ أَحِبَّائِهِ. أَنْتُم أَحِبَّائِي إِنْ تَعْمَلُوا بِمَا أُوصِيكُم بِهِ". (يوحنّا 9: 14- 15)
كان لها فرحُ الله في قلبها وكان يشع من خلال وجهها ومن خلال رسائلها. لم يكن فرح تريزا سهلًا ولا سطحيًّا. لقد كان ثمرة حبّها الكبير لله، وهديّتها الكاملة للمسيح، والكرم الذي أتمَّت به إرادة الله وعملت بجدّ مع نعمة الرَّبّ لتطهير قلبها من الكبرياء والأنانيَّة. بهذه الطريقة سمحَت تريزا لفرح الله أن يفيض في قلبها.
"فَنَظَرَ إِلَيْهِ يَسُوعُ وَأَحَبَّهُ". منذ طفولتها، بادلت خوانيتا هذه النظرة بالحبّ وأعطت قلبها للمسيح، ووصل حبّها ليسوع إلى قمّة استثنائيّة بالنسبة لفتاةٍ صغيرة. وَقَالَ لَهُ: "يُعْوِزُكَ شَيْءٌ وَاحِدٌ: اِذْهَبْ بِعْ كُلَّ مَا لَكَ وَأَعْطِ الْفُقَرَاءَ، فَيَكُونَ لَكَ كَنْزٌ فِي السَّمَاءِ، وَتَعَالَ اتْبَعْنِي حَامِلًا الصَّلِيبَ" (مر 10: 21). وهذه الدعوة، على عكس الشاب الغنيّ، لبّتها خوانيتا بكلّ كيانها؛ وفي الروحانيَّة الكرمليَّة - التريزيانيَّة، وجدَت الشابَّة التعبير الأكمل لنشر دفق الحياة الذي أرادت أن تعطيه لكنيسة المسيح بشكلٍ أكثر فعاليَّة، فكان أسلوب الحياة الذي عاشته منذ صغرها وبأبسط الطرق ومع كلّ الناس الذين التقتهم في حياتها القصيرة على هذه الأرض، متكاملًا مع هذه الروحانيَّة؛ وفي الكرمَل وجدَت الطريق الذي وُلِدَت من أجلِهِ.
جميع الـحقوق مـحفوظة لـِلمَوقِع الإِلكتروني لرهبانيَّة الكرمَليِّين الحفاة في لبنان ©