الفرح في حياة القدّيسة تريزا ليسوع الكرمَليَّة (دي لوسْ أَنْدِسْ)
"أختارُ الفرح"
كتابة: الأخت نادين العاقوري الكرمَليّة
(الراهبات الكرمَليَّات للقدّيس يوسف – الـمشرف)
خوانيتا فرنانديز سولار، واسمُها في الكرمَل: تريزا ليسوع (دي لوس أندس)، كانت شابّة مرحة جدًّا ورياضيّة. ولدت سنة 1900 من عائلة مؤمنة. كانت تحبّ الفقراء وتعتني بهم. دخلت دير الكرمَليَّات الحافيات (الحبيسات) في 7 أيّار 1919 في التاسعة عشرة من عمرها، وتوفّيت في 12 نيسان 1920 بمرض التيفوئيد بعد عذاب دام أشهر.
تميّزت هذه الراهبة بعطيّة من الربّ، جذبت من خلالها شبابًا كثر في عصرها، ولا تزال حتّى الآن تجذب القلوب إلى الله الحبيب.
وبما أنّ الفرح منذ البداية هبة من الربّ، فقد أرادت تريزا التشبّه بالخادم الأمين الذي فعّل الوزنة التي أوكلت إليه ليثمرها. فهذه الوزنة فُعّلت وأثمرت لتصبح رسالة.
تطرح علينا هذه الراهبة أسئلة عديدة، تحفزّنا لكي نبحث عن سرّ هذا الفرح وكيف عاشته :
- كيف يُمكن أن نفهم الفرح في حياة صبيّة توفّيت في ربيع عمرها بعد عذابٍ شديد؟
هل يمكن للفرح والألم أن يلتقيا؟ وما الغاية من هذا اللقاء؟
إذا بقي الفرح مشغولاً بذاته، لا يرى إلاّ ابتساماته، ولا يسمع إلاّ قهقهات ضحكاته ولا يشمّ إلاّ رائحة ملذّاته، ولا يتذوّق إلاّ أوهام التباهي ومتعة الترف والرفاهية، فموته محتّم وأكيد لأنّه بنى ذاته على أساس وهم العزلة والأنانيّة والسطحيّة. فإذ به يبقى وحيدًا لا شريك له يتقاسم بهجته. وبذلك يكون قد انطوى على ذاته فذبل ومات.
أمّا الألم، فمن يتبنّاه؟ فهو في أغلب الأحيان وحيد لا شركة ولا تواصل، وما من أحد ليناديه. يبكي وحدته ويتألّم لألمه، ويتعثّر بوحدته القاتلة. يُبصَقُ عليه ويُرذَل لأنّه سبب عذابنا وحزننا.
فالفرح متى أراد أن يسافر بعيدًا عن ذاته ومحورها ليستعيد طاقته، إذ بالحزن يلتقيه ليسأل عنه. فيكتشف هذا الأخير أنّ هناك قطعة من كيانه موجودة بالفرح، تدعوه إليها ليغيّر معالم وجهه وهويّته. فيفرح فرحًا شديدًا لأنّه اكتشف أنّ وجوده لا غنى عنه في الفرح.
أمّا الفرح! فاكتشف بدوره ما اكتشفه الحزن عنه. فابتهج لأنّه وجد في وجهه معالم جديدة. ففي النظر اتّضاح الرؤية، والشمّ رائحة بخور، والسمع فسحة صمتٍ للإصغاء، والمذاق كلمة ثقلها إختبار إنسان زهد بنفسه بحثًا عن حقيقة لم يتفوّه بها من قبل.
فإذا بالفرح والحزن يلتقيان، يتعارفان، يتحاوران وينسجمان ليكتشفا معًا سرّ وجودهما: الفرح بلا ألم ليس إلاّ وهم وسراب، كرمَل من دون صحراء.
والألم من دون فرح ليس إلاّ اكتئاب وتعاسة، يُلبسُ الجلاّد والضحيّة كذبة الحقيقة ويُبطّنهما بالشؤم ولعنة الموت.
جعلت تريزا من طبعها الفرح سببًا لقداستها وشهادةً تنقلها لشبابنا اليوم.
تختصر حياتها بأربع ركائز : الفرح، الألم، الحبّ، الصلاة.
عندما تكتب بأنّ الفرح لا يتمّ إلاّ بالله، هذا يعني أنّها اختبرت فرح العالم وملذّاته أوّلاً. ولكنّها ما برحت أن عادت سريعًا إلى الفرح الحقيقي، لأنّها كانت تختبره في صلاتها منذ طفولتها. وهكذا كبرت وترعرعت إلى أن وَعَتْ أنّ طبعها المرح لديه رسالة خاصّة. فبدأت تبحث عن الفرح الحقيقي لتعيشه. حينها اكتشفت حبّها الكبير للمسيح الذي فيه وجدت كلّ سعادتها ، قالت: "اكتشفتُ بأنّ هناك عطشًا للسعادة لا محدود في النفس. إنّ هذا العطش للفرح والسعادة مُضاعف في قلبي وليس له حدود. أرغب في أن أحبّ: أن أحبّ حبًّا لا متناهيًا ثابتًا، بعيدًا عن التقلّبات ولعبة الأهواء. هذا الحبّ الذي أبحث عنه قد وجدته أخيرًا، هو يسوع الذي يحبّني بلا نهاية ومنذ الأزل".
وجدت تريزا في مسيحها الفرح الحقيقي، واكتشفت بأنّ هذا الفرح هو عطيّة تُعطى لنا كحركة أوّليّة تأتي من الله لتصل إلى هدف اللقاء.
فهذا الفرح بالحبّ هو فرح حقيقيّ. لأنّه يفيض في النفس. وعندما يشعر الإنسان بفيضٍ، هذا يعني أنّه اغتنى باختبارٍ ما.
نعم هذا الفرح ما هو إلاّ لقاء عميقٌ بين الذي يرغبه كياني وما يحصل في الواقع من أحداث. فهناك تلاؤم بين رغبتي الدفينة بأن أعيش الله وأحداث الواقع الّتي ستسمح لي بأن أترجم هذه الرغبة.
هذا ما يصنع الفرح. هو هذا التفاؤل الذي تكلّمنا عنه والذي لا يملأ الإنسان فقط بل يفيض فيه: "إن عطِشَ أحد فليُقبل إليَّ، ومن آمن بي فليشرب كما ورد في الكتاب : "ستفيض من جوفه أنهار مياه حيّ". يقول يسوع (يو 7 : 38).
فالفرح هو اختبار يحوّل شخصنا من فاعل إلى مفعول به. لأنّه يشهد فينا على استقبالنا لعطيّة الرّبّ ونعمة الحياة، مهما كانت صعبة.
نعم إنّ هذا الاختبار دعا في تريزا كلّ قدراتها لاستقبال طاقات الله. فبفعل قدرة الاستقبال هذه، سمحت لله بأن يحوّل فيها كلّ ما هو أكثر حاجة إليه، فأصبح مهمًّا جدًّا عندها الاستسلام بفرح، للفرح ذاته.
هذا لم يحصل رغم إرادتها ولا ضدّ حرّيتـها. فالعكس صحيح، لأنّ الحريّة تدعم ما يريده كياننا والبحث عن فرحه الحقيقيّ. لا بل تعطي ما هو أفضل لديها. فالحريّة هي التي دفعتها للإلتزام بالواقع الذي ناداها، والذي تسبّب لها بالفرح. فالفرح كان علامة في داخلها لتحفّز رغبتها بالله أكثر فأكثر.
ومَن قال حريّة قال مشيئة. أرادات تريزا أن تهب حريّتها بأكملها إلى الله قبل دخولها الكرمَل. هي التي أدركت حقّ الإدراك قيمة الوقت. عاشت الكرمَل ومتطلّباته قبل دخوله. عرفت كيف تفتدي الزمن كما يقول القدّيس بولس. فوهبت إرداتها لله.
وهذه المشيئة أرادت أن تقدّم ذاتها للألم، فتقول: "لستُ ذاهبةً إلى الكرمل لأطلب ملاطفة المسيح، إنّي ذاهبةٌ لكي أتألّم من أجله".
لم تختر الألم سببًا لغايته. إنّما اختارته لتخلّص النفوس.
كيف ترجمت ذلك في حياتها؟
من علّيّتها في الكرمَل ظلّت تريزا ترافق النفوس بالرسائل، وتهتمّ لمشيئة الله في حياتهم وترشدهم. "إنّ حبّي لهذه النفوس هو حبّ أبديّ كحبّي للمسيح. أريد أن أكون قربانًا طاهرًا يقدّم ذبيحة دائمة وصامتة لأجل كلّ الخطأة على مذبح الربّ المقدّس. أريد أن أصير ضحيّة لأجل الخطأة، وأجعل شغلي الشاغل صلاتي لأجل العالم، وأن أخلّص النفوس بواسطة الصلاة. فأنا أؤمن أنّنا شركاء في خلاص العالم. وخلاص النفوس لا يتمّ إلاّ من خلال العبور في الصليب".
تعلّمنا تريزا أنّ السعادة الحقيقيّة هي النابعة من الصليب.
تمحورت إرادة تريزا حول نكران الذات أي نكران أنانيّتها لتربح حياة المسيح فيها. فصليبها اليومي كان هذا النكران نفسه. أرادت أن تضع فرحها في نكران ذاتها لتصبح خادمة للرّبّ ولأخواتها، تسلك درب المسيح وتتشبّه به. هو الذي أتى لا ليُخدَم بل ليَخدُم ويبذل حياته من أجل خلاص العالم : "إذا كان الله يهبنا ذاته في كلّ لحظة مع حبّه اللَّامتناهي، ألا يليق بنا نحن الخلائق الحقيرة أن نقدّم ذواتنا بكلّيّتها؟ الله ذاته يطلب حبّ خلائقه الحقيرة، أليس فينا القليل من الحبّ لهذا المستعطي الإلهيّ؟"
نعم ! هذا هو الفرح الحقيقي. هو أن أجيّش كلّ طاقاتي وقدراتي لأضعها في خدمة الرّبّ والعالم. وهذا يتطلّب النكران بالذات. أي القبول بحمل الصليب كلّ يوم.
فهذا الصليب هو صليبي أنا وليس صليب العالم. إذ يبدأ الطريق إبتداءً من أنانيتي، قالت: "علينا ان نميت الإنسان القديم... فنتخلّى عن طلب ذواتنا ونعمل ليس ما هو على مزاجنا، بل ما هو إرادة الله. تلك هي تقدمة المسيحي المستمرّة".
ففي نكران الذات هذا، وجدت تريزا الفرح الذي تبحث عنه. فأصبح هدف النكران حبّ المسيح وحبّ الآخَر وخدمته، أيّ ملء الفرح : "إنّ الحبّ هو القوّة التي تساعدنا على عمل الأشياء التي نشعر نحوها بكراهية، ما من شيء أكره، على طبيعتنا المترفة، من الصليب: إنّها لا تستطيع هضمه! ولكي تُكره ذاتها على اتّباع المسيح فهي تحاول أن تعتنق مسيحيّة بدون طعم، بدون صليب، مسيح على الموضة وذوق الرجل العصريّ. وهذا معناه نحر الإنجيل".
قبلت تريزا أن تأخذ أجنحة الصليب لتغرف حياتها فرحًا وحبًّا، ألمًا وصلاة.
وضعت تريزا الفرح كنظارات جديدة استعارتها لتعطي للألم نظرة مختلفة، تشاهد فيها العالم بأسره وبما فيه بنور الحب والفرح،... نور المسيح.
جميع الـحقوق مـحفوظة لـِلمَوقِع الإِلكتروني لرهبانيَّة الكرمَليِّين الحفاة في لبنان ©