القديسة أوفراسيا لقلب يسوع الأقدس الكرمَليَّة
كتابة: الأخت لينا الخوري الكرمَليّة
(من الراهبات الكرمَليَّات للقدّيس يوسف)
"كما أنّ الّذي دعاكم هو قدّوس، فكذلك كونوا أنتم قدّيسين في سيرتكم كلّها، لأنّه مكتوب: "كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس". (1 بط / 15-16).
القداسة دعوة لكلّ معمّد في الكنيسة، وليست مقتصرة على نخبة معيّنة. فمن استسلم كلّيًّا للرّوح القدس لا بدّ أن يبلغ قمّة جبل الحبّ. يفوق عدد القدّيسين والقدّيسات في رهبانيَّة الإخوة الحفاة للطوباويَّ’ مريم، سيّدة جبل الكرمَل، بكثير من نعرفهم، ومن بين هؤلاء غير المعروفين راهبة كرمليّة هنديّة، هي الأخت أوفراسيا لقلب يسوع الأقدس، الملقّبة ب"الأمّ مسكن القربان" أو "الأمّ المصلّية". الجدير بالذّكر أنّ الرّهبان الكرمليّين الحفاة وصلوا إلى الهند سنة 1619، والرّهبنة منتشرة اليوم في 7 محافظات، وتضمّ 34 ديرًا (1300 راهب و 800 راهبة).
من هي الأخت أوفراسيا لقلب يسوع الأقدس؟
ولدت أوفراسيا ألوفاثينغال في 17 تشرين الأوّل 1877 في قرية كاتورفي كيريلا بالهند. هي الكبرى بين إخوتها. والدها أنطوان شيربوكاران من عائلة غنيَّة من مالكي الأراضي، ووالدتها كونجيتي. ترعرعت في كنف عائلة كاثوليكيَّة تقيَّة تنتمي إلى الكنيسة السّريانية الـملاباريّة (نسبة إلى منطقة ملابار). نالت سرّ المعموديَّة المقدَّسة بتاريخ 25 تشرين الأوَّل 1877 في كنيسة "أمّ الكرمَل" في أداثوروتي، ونالت إسم روز، اختارتهُ لها والدتها تيمُّنًا بالقدِّيسة روز دي ليما. تلقَّت أوفراسيا تربية مسيحيَّة أصيلة بفضل أمّها التّقيّة الّتي علّمتها المحبّة والخدمة، الصّلاة والمواظبة على الذبيحة الإلهيّة وتلاوة الورديّة. تخبرنا أوفراسيا أنّها في سنّ التّاسعة، ظهرت لها العذراء مريم، والدة الإله في رؤيا، ومنذ ذلك اليوم عزمت على تكريس ذاتها كلّيًّا لله، وعدم الارتباط بزواج.
في سنّ العاشرة دخلت إلى مدرسة تديرها راهبات "أمّ الكرمَل"، وهي رهبنة كرمَليَّة رسوليَّة تأسَّست بتاريخ 13 شباط 1866 في كونامنافور على يد الرّاهبين الكرمَليَّين من "رهبانيَّ’ الكرمَليِّين الحفاة"، هما: كورياكوس الياس شافارا (الّذي أعلن قدّيسًا مع الأخت أوفراسيا في اليوم نفسه) وليوبولد بيكارو، وهي الرهبنة المحليّة الأولى في الكنيسة السّريانيّة الملاباريّة.
إنَّ روحانيّتها توازن بين الصّلاة والتّأمّل من جهة، والعمل الرّسولي من جهة أخرى في خدمة الفقراء على الصّعيدين التّربوي والصّحي. مع مرور السّنوات، شعرت أوفراسيا بانجذاب إلى هذه الرهبانيَّة، وطلبت الانضمام إليها. لكنّها واجهت رفض والدها وقراره بتزويجها لشاب غني من المنطقة. لم تقبل أوفراسيا الزّواج، ملتزمة بالعهد الذي قطعتهُ مع يسوع بأن تكرّس ذاتها له، واعتكفت في البيت ممارسة حياة التأمّل والعزلة والتقشف. مرَّ الوقت، وحدث مأساوي غيَّر مسار الأمور لصالحها، ألا وهو موت أختها الصغرى المفاجئ، الذي وقع كالصّاعقة على والدها، وجعله يعدل عن رأيه بشأن زواجها، فقام بمرافقتها بنفسه إلى دير الكرمَل.
في 10 أيّار 1897، قُبِلَت أوفراسيا كطالبة في الرّهبانيَّة. وفي 10 كانون الثّاني 1898، دخلت مرحلة الإبتداء، واتَّخذت إسمًا لها في الكرمَل: "أوفراسيا لقلب يسوع الأقدس". لكن ما لبثت أن تدهورت صحَّتها بشكل كبير وخطير، بحيث أنّ المسؤولات عَزَمنَ على إعادتها إلى البيت. توسَّلت أوفراسيا الرّب لنجدتها، وما لم يتوقّعه أحد حصلَ فعلًا. تخبرنا القدّيسة بأنّها شاهدت العائلة المقدّسة في رؤيا وهي على فراش المرض ونالت منها الشّفاء التامّ. هذا الشفاء المفاجئ صدم الجميع ولا سيّما الأطبّاء الّذين كانوا قد فقدوا الأمل من إمكانيّة تحسّنها. كان لا بدّ من تدخّل السّماء ليتمجّد الرّب في خطّيبته الصّغيرة. أخيرًا استطاعت أن تبرز نذورها الإحتفاليَّة في 24 أيّار 1900.
تمّ تعيينها معلَّمة للمبتدئات من 1904 إلى 1913، ثمَّ رئيسة للدّير لمدّة ثلاث سنوات من 1913 إلى 1916. تميّزت أوفراسيا بروح الصّلاة والتّواضع، المحبّة والخدمة. تشهد أخواتها الكرمَليَّات أنّها كانت تتمتّع بموهبة فريدة في الإعتناء بالمرضى، حتّى المصابين بالأمراض الخطيرة والمعدية مثل الكوليرا والسّل، دون أن يمسّها أي سوء. تميّزت أيضًا في مرافقة المنازعين وتحضيرهم للموت بحنان ورحمة فائقين، مستندة دائمًا في تعزيتها لهم على كلام الإنجيل.
كانت أوفراسيا تلقّب ب"الأمّ المصلّية" أو "الأمّ مسكن القربان" أو حتى "مسكن القربان المتنقّل". كانت تعكس نور يسوع على محيّاها. لم تكن المسبحة تفارق يدها، في الصّمت والعمل. كانت تجمع بين التأمّل النّسكي والذوبان في قلب يسوع خلال ساعات السّجود أمام القربان الأقدس، وبين خدمة إخوتها بمحبّة وهمّة لا مثيل لهما بالرّغم من صحّتها الهشّة. طلب منها مرشدها الرّوحي أن تكتب سيرتها الرّوحيّة في رسائل تمَّ الاحتفاظ بها في كرمَل تريشور، وتُعَدّ مجموعة كبيرة مليئة بالروحانيَّة والكتاب المقدَّس.
توفيت الأخت أوفراسيا في 29 آب 1952، عن عمر 75 سنة، في دير القدّيسة مريم في أولور، ودفنت في مقبرة الدّير. بدأ المؤمنون يتوافدون على ضريحها، بأعدادٍ كبيرة جدًّا، وتوالت العجائب والنّعم بشفاعتها، بحيث أصبح قبرها مقرًّا للحجّ والصّلاة. في 30 كانون الثّاني 1990، نقلت رفاتها إلى قبر جديد في كنيسة الدّير.
في 5 تموز 2002، وافق البابا القدّيس يوحنا بولس الثّاني على إعلانها مكرّمة معترفًا بفضائلها البطوليّة.
في 3 كانون الأوّل 2006، بموافقة البابا بندكتس السّادس عشر، تمَّ إعلانها طوباويّة في كنيسة القدّيس أنطوان-فوران بأولور، على أثر أعجوبة موثوقة حصلت مع نجَّار اسمه توماس ثاراكان، شفي بطريقة عجائبيّة من سرطان العظم، بشفاعة الأخت أوفراسيا.
في 13 كانون الثّاني 2014، تمَّ إعلانها قدّيسة في روما مع البابا فرنسيس على أثر أعجوبة شفاء الطّفل جويل من ورم في الحنجرة. صلّت جدّته إلى الطّوباويّة أوفراسيا وطلبت منها نعمة الشّفاء لحفيدها الصّغير.
هذه نبذة عن الأخت الكرمليّة أوفراسيا لقلب يسوع الأقدس، واحدة من قافلة كبيرة من القدّيسين غير المعروفين في هذه الرهبانيَّة العريقة والمقدَّسَة. الجدير بالذّكر أنّ الأخت أوفراسيا هي القدّيسة السّادسة في الهند.
نختم من كلمة لقداسة البابا فرنسيس يوم إعلان قداستها :
"عاشت الأخت الكرمَليَّة أوفراسيا في وحدة عميقة مع الله. حياة القداسة للّتي سمّيت "الأمّ المصلّية" تبقى مثالًا وحافزًا لنا... ليساعدكم القدّيسون على جني الثّمار من كنوزهم ومثال حياتهم الإنجيليَّة. اتبعوا خطاهم، وبشكل خاص حبّهم ليسوع الإفخارستيّا وللكنيسة، لتتقدّموا في طريق القداسة".
جميع الـحقوق مـحفوظة لـِلمَوقِع الإِلكتروني لرهبانيَّة الكرمَليِّين الحفاة في لبنان ©