كتابة: الأب ريمون عبدو الكرملي
1. حياتي صلاة
كتبت إليزابيت في مذكراتها سنة 1899 بعض التأملات حول الصلاة؛ إنها تأملات تعكس حقيقة حياتها الروحية. هي تقول: "لا بد من الصلاة،… ينبغي أن نصلّي، لأنه من دون الصلاة تُغلَق السماء أمامنا؛ وبالصلاة تُغلق جهنم تحت خطواتنا؛ والصلاة الحقيقية، هي التي تنطلق من القلب وليس من الشفاه فقط. الصلاة دعامة تسندنا في أثناء العواصف الأرضية الكبيرة. والصلاة تأثيرها شديد على قلب الله. إنها المفتاح، ... علينا أن نصلّي، آه! أن نصلّي، حتى نُهدي النفوس المسكينة التي لا تعرف أن تصلّي أبداً! .... (وعلينا أن نصلي) بانتباه؛ وإذا كان الشرود غير إرادي، فصلاتنا ممتازة، مع أن قلبنا يشعر بتعزيات أقل. وأن نصلي بتواضع... وبثقة. إن صلواتنا مستجابة جميعها.... يا إلهي، نعم، أريد الصلاة حسب هذه المزايا الثلاث (بانتباه وتواضع وثقة)، أصلّي بثقة خاصة. آه، لن تُثبط عزيمتي، سألحُّ عليك إلى أن تصغي إلي".
بانتظار الدخول إلى الكرمل، خلقت إليزابيت صومعتها الداخلية، وتركت يسوع يدير من هناك حياتها نحو الكمال : " يبدو لي أن لا شيء يلهي عنه عندما لا نعمل إلاَّ من أجله، دائماً في حضوره المقدّس، تحت نظرتِه الإلهية التي تخترق أقصى حميميّة النفس؛ حتى في وسط العالم، يمكن أن نُصغيَ إليه في سكون قلبٍ لا يريد أن يكون إلاَّ لَه" (رسالة 38).
بعد دخولها الكرمل، جسّد اسمها رسالتَها: "اسمي في الكرمل: "مريم إليزابيت للثالوث"، هذا الاسم يشير إلى دعوة خاصة" (رسالة 62). فالعيش بالحضور يتحوَّل إلى دعوة إلى الصمت والعزلة في جو من السجود : "لم أفهم من قبل قط كما فهمت الآن هذا السرَّ الموجود في اسمي، وكل هذه الدعوة التي ينطوي عليها". "فليكن "مركزنا"، ليكن "مسكننا" ". (الرسالة 113).
تستشهد إليزابيت كثيراً بالأم القديسة تريز ليسوع، والقديس يوحنا الصليب، والقديسة تريز للطفل يسوع، معلّمي الكرمل : " فقديستنا الأم تريز تريد أن تكون جميع بناتها رسوليات: هذا بسيط جداً، فالمعبود الإلهي هو فينا، إذاً لنا صلاته، لنقدمها، لنشارك فيها، لنصلي مع نفسه!" (رسالة 258). فمطالعاتها لقدّيسي الكرمل ساعدتها على التعبير عن اختبارها الروحي الصوفي، ووصفِهِ بدقّة، لا بل على تطويره بشكلٍ أفضل.
2. تحديد الصلاة
كيف تحدّد إليزابيت الصلاة من خلال كلامها وعيشها وخبرتها؟ "عندما أقول الصلاة، فهذا لا يعني أن نلتزم كل يوم بتلاوة عدد
كبير من الصلوات اللفظية،
بل
أن نرفع النفس نحو الله عبرَ جميع الأشياء التي تُثبتنا مع الثالوث الأقدس في نوع من المشاركة المستمرة،
وبكل بساطة نفعل كل شيء تحت نظره. … هناك حيث يقيمُ الآب، والابن والروح القدس وفيهم سنكون وحدة كلية" (رسالة 252).
وفي مسألة التأمل يُشغلها جوهر اللقاء بالمسيح؛ "خُذي مصلوبك، أُنظري وأصغي... في إمكاننا الصلاة إلى الله ونحن نعمل،
ويكفي أن نفكِّر فيه. عندئذٍ يصبح كل شيء عذباً وسهلاً، لأننا لا نفعل ذلك وحدنا وأن يسوع هو هنا" (رسالة 93).
وإلى والدتها تقول "عيشي معه في نفسك حقاً، قومي بأفعال تأملٍ في حضوره؛ قدِّمي له الآلام التي تُعانين منها بسبب صحتك: هذا أفضل شيء
يُمكنُ أن نعطيه له" (الرسالة 295).
تتفاعل إليزابيت عن وعي مع هذه القوة المحوِّلة، وهذا الحضور الإلهي القوي في حياتها وتسعى لتوجيه النفوس نحو فهم حضور الله،
وكيفية التجاوب معه، لتصبح الصلاة لقاءاً محوِّلاً ومثمراً. وتجيب على الكثير من الأسئلة الصعبة حول موضوع الصلاة ببساطة الخبير،
لأنها تعرف معرفة أكيدة من خلال اختبارها : "في أوقات الضعف، اذهبي والتجئي في كنف صلاة معلِّمك؛ فعلى صليبه كان يراك،
وكان يصلِّي لأجلك، وهذه الصلاة حيَّة للأبد وحاضرةٌ أمام أبيه؛ إنها هي القادرة على تخليصك من شقائك. فبقدر ما تشعرين بضعفك،
تكبر ثقتك، لأنك عليه وحده تستندين. لا تعتقدي إذاً بأنه لن يأخذك بسبب ذلك؛ إنها تجربةٌ ضخمة" (رسالة 324).
إنّ ما تقوله هنا لصديقتها جرمين تستخلصه من اختبارها وصلاتها الخاصة. تلك الصلاة التي عاشتها ممزوجة بالألم،
كانت ملاقاة للمصلوب، بل جوابها على نداءاته وسعي إلى تحقيق "الوجهاً لوجه". فإليزابيت تنظر إلى الشخص الآتي نحوها،
يسوع، ولا تَدَع الأحداث أو الأفكار والمشاعر تثنيها عن الانتباه؛ هذا هو الحضور، الحضور فيه ومن أجله ومعه، في قلب الثالوث.
3. قوة الاستسلام
يعلّم اللاهوت الروحي التقليدي أن التطهّر من جميع الميول الداخلية هو ضروري للوصول إلى حالة الاستنارة
ومن ثمّ الاتحاد الكامل بالله والاستسلام إليه؛ إن الخطيئة والنّزوات البشرية تمنع الإنسان من الوصول إلى السلام.
تتأمل إليزابيت في رياضتها الأخيرة حول "النفس التي تجادل أناها وتنشغل بأحاسيسها، وتتّبع تفكيراً
لا يُجدي وتستسلم لشهوةٍ ما، هذه النفس تُبدّد قواها وهي لا تزال غير مؤتمِرة بالله كلّياً:
لا تَهتزّ كنّارتُها للنَغَم، ولا يستطيع "المُعلِّم"، عندما يلمسُها، أن يُخرِج منها نغماتٍ إلهية.
لا يزال هناك كثيرٌ من البشريّة فيها، وهي نشاز. إنَّ النفس التي تحفظ بعض الأشياء في "مملكتها الداخلية"،
التي لا تزال جميع قواها غير "مسوَّرة" في الله، لا تستطيع أن تكون مُسبِّحَة كاملة بمجده؛ أنها ليست في حالة
أن تُنشِد دون انقطاع هذا "النشيد الكبير" الذي يتكلّم عليه القديس بولس؛ لأن الوحدة لا تزال غير سائدة فيها، وهي
بدل من أن تتابع تسبيحه ببساطة عبر الأشياء جميعها، عليها أن تجمع أوتار كنارتها من دون توقف،
هذه التي ضاعت قليلاً، في جميع الجهات" (الرياضة الأخيرة، 3).
عندما تصبح الصلاة جزءاً أساسياً من دينامية الحياة، لأن الله هو الجزء الأساس والأهم في الحياة، تتفاعل كامل طاقات النفس مع النعمة لكي توجِد الإنسان في حال من النمو نحو هويته الحقيقية، أي أن يكون "مسبِّحاً بمجد الله". إن مسيرة الصلاة تتطلّب من النفس أن تتجرد من كل ما يمنعها من تحقيق اللقاء مع الحبيب، في الداخل والخارج. ومن خلال النص الذي قرأناه نجد أن الصلاة ليست، بالنسبة إلى إليزابيت، نشاطاً مباشراً وليدَ اللحظة والمناسبة، بل هي، في كل لحظة تعبيرٌ عن وحدةٍ داخلية وتناغم بين قوى النفس ورغبة العريس.
4. جذرية، شمولية، استمرارية
إنَّ صلاة إليزابيت تتّسم بالجذرية في رغباتها؛ إن فعل الحب الذي تقوم به تجاه الثالوث يتّصف بالشمولية، والاستمرارية والكثافة؛ إنها تريد أن تعطي "كلّ" شيءٍ، "بكلّيتي كاملةً"، وأن "أثبت" فيك دوماً… إن حقيقة الصلاة هي أن نترك الله يعمل ويحقق في حياتنا جميع رغباته؛ ولكي يتمكّن الله من تحقيق "عمله الخالِق" والمجدِّد، علينا أن نعرف كيف نَمّحي ونستسلم وننسى ذاتَنا. في الكثير من الأحيان تتحوّل رغباتُنا الخاصة في الصلاة إلى عائق أمام العمل الإلهي. فإليزابيت لا تطلب سوى أن تتعلّم، في مدرسة مريم أم يسوع، كيف تتمّم مبدأ "ها أنذا أمة الرب، فليكن لي بحسب قولك"، بدون أية شروط.
5. "ولكنيّ أشعر بعجزي"
بعد أن وصفت إليزابيت رغبة قلبها، تجد ذاتها أمام عجزها ومحدوديتها، وهذا اعترافٌ بالحقيقة ضروريٌ كهمزة وصل بين الإنسان وإمكانياته وبين الله وعِظَم رحمتِه. إننا غالباً ما نتألم أمام عجزنا، ونبدأ بخوض المعارك مع ذواتنا، وأحياناً مع الله؛ وأساس هذه المعركة هي رغبتنا في أن نرضي الله رغماً عن ضعفنا، وغالباً ما يفاجئنا الفشل. "فالمطلوب هنا واحد"، أي أن نقف أمام الله، ونعترفَ بهذا الضعف ونطلبَ، كما طلبت تريز الطفل يسوع في صلاتها المشهورة "تقدمة الذات"، وبكلمات إليزابيت: "أريد أن أُتمَّ مشيئتك كاملةً، وأن أستجيبَ لِنعمتِك دائماً؛ أريد أن أكون قديسة معك ولأجلك، لكني أشعرُ بعجزي، آه، كن قداستي" (مذكراتها الشخصية، 5)؛" إنه فينا، يا سيّدتي العزيزة، كي يقدِّسنا، فلنطلب إذاً أن يكونَ بذاته قداستنا" (رسالة 184). أمّا إذا تلهّينا في معاركنا وتخبّطنا، بدون أن ننظر مثل إليصابات، الى الأمام، فنخسر المعركة؛ لأننا بذلك نكون قد علّقنا الأمل على جهدنا الذاتي، وليس على رحمته وحضوره. وهذه الدينامية لا تقلِّل من جهدنا، بل تحدّ من ثقتنا المفرطة بذاتنا، ولا تزيد من قداستنا، بل توسّع المكان الذي يحتله الله في حياتنا لكي تكون قداستنا على مقياس رغباته هو وليس على حسب مخططاتنا.