كتابة: كرمل والدة الإله والوحدة – حريصا
كانت صبيّة تُغادر لتوّها غرفة الاستقبال في ديرنا، بعد أن اتكلت على صلوات الكرمليات المحصّنات، عندما طُلب مِنّا أن نكتب مقالة عن " الطوباوية إليزابيت للثالوث، كرملية حافية ". أدركنا عندها على الفور أنّ إليزابيت، بتدبير العناية الإلهية، رغبت في التواصل مع هذه الصبية، ومن خلالها مع كل شبيبة اليوم لتكشف لهم " سر السعادة ".
من يقدر على التحدّث عن إليزابيت – الكرملية؟ لا أحد إلاّ إليزابيت نفسها، فهي الوحيدة القادرة على شرح : ما هي دعوتها في الكرمل، وما هو الكرمل، وكيف كانت حياتها الباطنية تنمو في الكرمل مع " الثلاثة " (أي الثالوث)، ضيوف نفسها، كما كانت تدعوهم.
من يقدر على التحدّث عن إليزابيت – الكرملية؟ لا أحد إلاّ إليزابيت نفسها، فهي الوحيدة القادرة على شرح : ما هي دعوتها في الكرمل، وما هو الكرمل، وكيف كانت حياتها الباطنية تنمو في الكرمل مع " الثلاثة " (أي الثالوث)، ضيوف نفسها، كما كانت تدعوهم.
سنحاول البحث في أشعارها، ويومياتها، وكتاباتها، ورسائلها عن العبارات التي بإمكانها أن تُنير رغبتنا في اكتشافها كراهبة كرملية مُحصَّنة وحافية، وذلك في بساطة مفرداتها، وشفافيّة جُملها الموجّهة إما لإظهار حالات نفسها المختلفة، وإمّا لإبلاغ الآخرين بهاء إلفتها مع الثالوث الأقدس، الساكن في عمق نفسها. إذًا، فلندع إليزابيت تتكلّم على ذاتها.
إن إليزابيت تصبو، وهي مُراهقة، إلى أن تصير كرمليّة، وتنتظر بكلّ جوارحها هذه الساعة التي ستصبح فيها ليسوع إلى الأبد. فمنذ حداثتها اكتشفت بأنّ الله سكن فيها، وبأنّه رغب في العيش معها بألفة. وهي سقطت في شرك هذا الحب المصلوب : " أريد مشاركتك في آلامك. يا يسوع، يا حبّي الفائق، لم أعُد أستطيع الحياة بدون أوجاع في حين أنك تتوجَّع " (يوم 111). " سأبادلك محبّة بمحبّة، دمًا بدم " (يوم 126). إنها تُصغي إلى صوت ربّها " يناديني إلى الكرمل " (قص 29)، كي " أحيا معه متوحّدة " (قص 29) ولكن أيضًا " لأحب، لأصلي، لأتألم " (قص 36). تخال أن يُحبّها الله حبًّا كبيرًا لأنه " خصّني بهذا النصيب " (يوم 124 ورس 87)، وتؤكِّد أنّ " هذه الدعوة هي الأجمل " (يوم 57).
إنّ إليزابيت، بعد أن دخلت الكرمل عن عمر 21 سنة، تنتمي أخيرًا إلى يسوع من دون رجعة، وهي تريده أن يمتلكها. وبعيدًا من أن لا تُبالي بأقاربها (رس 247)، كان قلبها، في الحصن، وفي الصمت والعزلة " يتوسّع ويعرف كيف يزداد حبّا " (رس 88)، وكان أفقها لامتناهٍ: " إن آفاق الكرمل… لهي أجمل بكثير، إنها اللامتناهي " (رس 87). إنّها تجد أقاربها بالقرب من يسوع (رس 91؛ 164؛ 214)، وهناك تعطيهم موعدًا (رس 113)، وفيه تحبّهم " كما نحبّ في السماء، وأنه ليس في الإمكان أن يقع الفراق " (رس 170). إنّ مُقارنة الكرمل بالسماء، غالبًا ما تتردد في رسائلها : " إنه قطعة من السماء " (رس 142)، " إنه سماء مُسبَقَة " (رس 109؛ 123؛ 199)، إنه " السماء في الإيمان " (رس 143). وإليزابيت تعلم أنّها مدعوّة إلى عيش السماء انطلاقًا من هذه الدنيا. ولكي تُدرك ما تصبو إليه يجدر بها أن " تصعد إلى جبل الكرمل " (رس 116). وهي، لهذه الغاية، تملك كلّ الوسائل : أولاً، إنّ يسوع يتقدّمها ويحملها، ثم إنّها تلجأ إلى سيّدة الكرمل لتتعلّم منها كلَّ شيء، كما إنها تترك ذاتها تتعلّم من كتابات أمنا القديسة تريزيا ليسوع وأبينا القديس يوحنا للصليب، وأخيرًا إنها تحيا بعمق القانون المقدّس الذي يعبّر لها، لحظة بلحظة، عن إرادة الله.
إنّ جوهر الحياة الكرملية هو التأمل (رس 136 و299)، والتأمل هو الاتحاد الحميمي مع الله – الثالوث. فلنصغِ إلى إليزابيت تُردّده على مسامعنا في رسائلها : " إنّ حياة الكرملية هي شركة مع الله، من الصباح حتى المساء، ومن المساء حتى الصباح " (رس 123) ؛ " ها هي حياة الكرمل كلها، هي أن نحيا فيه… وترى النفس ذاك الذي تحبّه عبر كل شيء، وكل شيء يحملها إليه : إنه استمرار قلب لقلب " (رس 136)؛ " ها هي حياة الكرملية : إنها متأمّلة قبل كل شيء ومجدلية أُخرى، لا يستطيع شيء أن يلهيها عن الوحيد الضروري " (رس 164). هنا تجد الوحدة، الانسحاب من كل شيء، والصمت والإصغاء كل معناها : " عزلتنا غالية علينا كثيرًا، لأنه كما قال أبونا يوحنا الصليب: إن قلبين يحب الواحد منهما الآخر يفضّلان الوحدة على كل شيء " (رس 184) ؛ إنّ يسوع "أخذني كليًّا له، ووضعني جانبًا على جبل الكرمل" ( رس 198) ؛ "آه هذا الكرمل، هذه الوحدة معه وحده، مع الذي نحبّه، لو تعلمين كم هذا لرائع!" (رس 109) ؛ "لي فيه كل شيء…" (رس 128)؛ "لكن صومعتنا مليئة بالله وفيها أقضي أوقاتًا جميلة جدًا، وحدي مع العريس … أسكت وأُصغي إليه… ثم أنا أحبّه…" (رس 168).
" حياة الكرملية، تقوم على الصمت وهي تحبّه قبل أي شيء آخر " (رس 97) ؛ " أحيانًا هي قوية للغاية هذه الحاجة إلى السكوت… كما المجدلية… المتعطّشة إلى الإصغاء الكليّ " (رس 158) ؛ " أنا أحبّه بشغف، ولي فيه كلُّ شيء! إنما عبره، وتحت إشعاعه، ينبغي أن أنظر إلى كلّ شيء وأذهب إلى كلّ شيء! " (رس 128). من هنا تتفرّع رسالة الكرملية : " من عمق عزلتي العزيزة في الكرمل، أُريد أن أعمل لمجد الله، ولأجل هذا يجب أن أكون مليئةً به تمامًا، عندئذٍ سأملك قوة كليّة : وتصبح نظرةٌ ما ورغبةٌ ما، صلاةً لا تُقاوَم … أن أكون رسولة، كرملية، هذا كله واحد " (رس 124). تكون رسالة الكرملية أكثر خصوبةً على قدر ما تكون " مستسلمةً تمامًا وواهبة نفسها كليًّا " (رس 99)، تعطي نفسها على مثال المسيح المصلوب (رس 133) ؛ عِلم يسوع المسيح السامي " يعمل على إخراجنا من كل شيء، خاصةً من ذواتنا حتى يرمينا في الله ولا نعود نحيا إلاّ منه " (رس 184). هكذا تصبح إليزابيت " مشابهة له " (رس 156)، وتتحوّل إلى " مثال آخر له " (رس 164)، وتصبح أيضًا " إنسانية مزادة بشكلٍ ما " (رس 214). وتشعر إليزابيت بالحاجة " إلى أن نتقدّس، أن ننسى نفسنا حتى نكون كليًّا لخير الكنيسة " (رس 256)، وتكتشف رسالتها بأن تتشفّع، وتطلب الرحمة، وتكون " وسيطةً مع يسوع المسيح " (رس 256)، " مُخَلِّصَةً معه " (رس 214)، أن تهب حياتها، إنها له منذ زمن طويل كي يفعل بها ما يشاء : " وفي حال لن أكون شهيدةً بدمي فأنا أريد أن أكون شهيدة بالمحبة " (رس 287). إن كلّ ذلك يفترض بطبيعة الحال التضحية والإماتة والصليب الذي تسمّيه إليزابيت " إرث الكرمل " (رس 207). وهذا مُعاش يوميًا في الإيمان بدون التوقّف عند الأذواق والمشاعر (س إ، 20).
لنتطرّق إلى الدعوة الخاصة التي اكتشفتها إليزابيت في اسمها " مريم – إليزابيت للثالوث " : " أحبّ كثيرًا سر الثالوث الأقدس هذا، إنه غمرٌ أتلاشى فيه!…" (رس 62) ؛ " كم قد يعذُب أن نحيا حياة الثالوث هذه، الحياة التي أتى المسيح يحملها إلينا " (رس 199). إنّ سكنى " الثلاثة " (س إ، 14) يجذب إليزابيت إلى الداخل نحو مركزيّتها الأكثر عُمقًا ( س إ، 6) والذي يعطيها " القوة لنموت عن ذواتنا " ( س إ، 4) ولتكون مُستهلكة ولتبلغ إلى تشابُه الحب هذا، إلى هذه الوحدة مع الله (س إ، 18). إن روح الحب يُتِمُّ فيها هذا التحوُّل المجيد وتصبح ثابتة في الحب الخالص.
" فحينما أُصبح مطابقة لهذا النموذج الإلهي، أنا فيه وهو فيَّ، حينئذٍ أُكمِل دعوتي الأبديّة التي اختارني لها " منذ البدء "، تلك الدعوة التي سأقوم بها إلى الأبد، فألِج حضن الثالوث لكي أُضحي تسبحةً غير منقطعة لمجده (أف 1/12) " (ر أ، 1). أُعطيَت إليزابيت من الله الاسم الجديد الموعود به للغالب، ستُسمّى، من الآن فصاعدًا، " تسبحة مجد ": " تبدأ منذ الآن في سماء نفسها، فرضها الأبدي… تسبحة مجد للثالوث الأقدس، وتسبحة حبٍّ لأمنا النقية " (س إ، 44)، إذ إنه " في نفس العذراء سنعبد الثالوث الأقدس " (رس 199)، " إن أم النعمة الإلهية، هي التي ستكيّف نفسي لكي تكون ابنتها صورة حيّة وأخّاذة لبكرها " (ر أ، 2) "، لأن " أحدًا لم يلج عمق سر المسيح إلا العذراء " (ر أ، 2). فمنها تعلّمت أن تحفظ كل شيء في قلبها، وتعلَّمت العيش في عمق لا يمكن للنظر البشري أن يبلغ إليه (الرياضة الأخيرة، 40)، أن " تقف صغيرةً جدًا، متخشِّعةً جدًا " (س إ، 39)، وأن " تستعد للقيام بكل شيء، بشكلٍ تألّهت بها الأمور التي كانت أكثر تفاهة " (س إ، 40).
تُظهر لنا هذه السطور القليلة كيف جازت إليزابيت للثالوث جبل الكرمل، كيف أكملت نهائيًا دعوتها في قلب الكنيسة مُستسلمةً إلى عمل الروح القدس، المُقَدِّس، من أجل مجد الله، ومن أجل تقديس العالم، وتطلب الصلاة كي تكون " كرملية كليًّا، يعني قديسة، لأن الأمرين شيء واحد " (رس 90)، " هذا يفترض كيانًا قد تألّه كثيرًا " (رس 178)، " هناك كلمتان تلخصّان كل قداسة وكل رسالة : وحدة، حب " (رس 191). هذه الجُمَل – حيث الفكرة فُصِّلت فيما سبق – تُعبِّر بوضوح عمّا يجب أن تكون عليه " الكرملية " في مفهوم إليزابيت.
ختامًا، إنّ إليزابيت التي قالت بأنّ مهمتها في السماء " هي أن أجذب النفوس بمساعدتها على الخروج من ذواتها حتى تلتصق بالله " (رس 335)، يبدو أنّها تقول إلى شبيبتنا اليوم، العطشى إلى الحب لكنّها تفتش عنه في الآبار الفارغة : " هناك من بحث عنّي وهناك من أحبّني. هذا ما هو حقيقي، الباقي كلّه ليس كذلك " (رس 199)، " بما أنه هناك فلنمكث برفقته كالصديق بالنسبة إلى الذي يحبّه " (رس 184). وتترك لنا إليزابيت هذه الوصية : " أترك لك إيماني بحضور الله الكليّ المحبة الساكن في نفسينا. أعهد إليك به : إنها هذه الحميمية معه " في الداخل " هي التي كانت الشمس الجميلة في حياتي " (رس 333).
رس : رسائل
يوم : يوميات
رأ : الرياضة الأخيرة
س إ : السماء في الإيمان
قص : قصيدة