كتابة الأب "Mariusz Wojtowicz" الكرملي
كتبَ القديس بولس إلى أهل أفسس يقول بأنّ الله اختارنا لنكون تسبحته، أي انعكاسًا لمجده ولكينونته ولعمله. إنّ الله، في تصميمه الأزلي، أراد تسبيح ذاته وتمجيدها، وأراد الإنسان وكلّ الخليقة لهذه الغاية، أي لتمجيده وتسبيحه. هكذا ملاحظة، وإن كانت تتضمَّن كلّيًا الحقيقة الموحى بها، قد تُثير الشكَّ في أنّ الله "أناني" في سلوكه معنا : يُريد كل شيء لذاته ولا يتطلّع إلاّ بذاته. إنّ الوصول إلى ملاحظة خاطئة كهذه لسهلٌ، كما هو سهل أيضًا انتزاع هذا الشك الذي يُولد، قبل كل شيء، من المعرفة الناقصة للإيمان. فالله، في الحقيقة، على مستوى كينونته – أي كونه ثالوثاً وقبل أن يخلق الإنسان – يُشرك في مجده؛ فلا أحد من الأقانيم الثلاثة يدَّعي، في الواقع، المجد لذاته، بل يُريد مجد الآخر : الآب يريد مجد الابن، والابن يريد مجد الآب، والروح القدس يريد مجد حبّهما المُتبادل. إنّ المجد، في هذه الحالة، ليس علامة على الأنانية، بل هو شرح " الشركة" القائمة بين الآب والابن والروح القدس على أساس " علاقة تبادلية " فيما بينهم : هذا على مستوى كينونته؛ أمّا على مستوى عمل الثالوث تجاه الخليقة فإنه، كي يتمجَّد بها، يهب لها الوجود مجانيًّا ويحفظها به، كاشفًا لها " دعوة التسبيح ". الله هو الذي يقوم بالمبادرة إزاء الإنسان ويهب ذاته : فكيف يمكن أن يُسمّى أناني؟.
إنّ إدراك إليزابيت لـ "سر المجد" تمَّ في سنواتها الأخيرة. لذا سندع جانبًا التاريخ المحدّد لهذا الاكتشاف، وسنحاول، أن نرصد كيفية وصول الكرملية الشابة إلى إدراك أساس إيماننا : إننا خُلِقنا لمجد الله.
إنّ حياة إليزابيت تؤكّد، قبل كل شيء، منطقيّة المسار الروحي حيث الحقائق المسيحيّة تتعاقب وتوضِح إحداها الأخرى. فإليزابيت المُراهقة تبني حياتها كلّها بالقرب من يسوع – الكلمة المتجسّد الذي أصبح صديقًا لها، ومعلّمًا، وعريسًا، وإفخارستيا؛ فجهدها التقشّفي، المتعلّق بموت الإنسان القديم وولادة الإنسان الجديد، يجد تفسيره في اتّباع المسيح. إنّ كثافة العلاقة مع المسيح كشفت لها باطنّيتها الذاتية المليئة بحضور الله، أو بالأحرى، بحضوره الثالوثي. هكذا تبدأ الصبيّة الشابة بتفحّص سرّ الثالوث الحال في ذاتها لأنّه يسكنها منه، وتكتشف أهمية كل أقنوم في الثالوث، كما كرامة كل معمّد بكونه مسكن الثالوث الإلهي. وأخيرًا بدأت الطوباوية تفهم بأن القداسة والجهد التقشّفي المرتبط بها، هما لأجل الله أكثر مما هما من أجل الكمال الشخصي. إنّ كلماتها التي تلفّظت بها في شبابها : " إني أرغب في أن أكون قدّيسة معك ولأجلك "، تجد الآن كل الفهم. على هذا النحو، وبالاستعانة برسالة القديس بولس إلى أهل أفسس وُلدت دعوة إليزابيت لتكون " تسبحة مجد " للثالوث.
تسبحة مجد – من المجد إلى التسبيح :
إنّ عبارة مار بولس " تسبحة مجد "، وإن تكن استُعملت بطريقة خاطئة نحويًا، في اللغة اللاتينية، من قِبَل إليزابيت، تحتوي ديناميكية داخلية، ويمكن ترجمتها بالكلمات التالية : جواب التسبيح إزاء الدعوة إلى المجد، أو هي الجواب الأمثل إزاء الدعوة الأبدية. إنّ مجد الله، في الواقع، هو التجلّي الإلهي، وهو يصبح، من ناحية أخرى، دعوةً لا تُقهر إلى الواقع الذي يكشف عنه، ويصبح دعوةً إلى المشاركة الفعّالة فيه. والتسبيح، في المُقابل، هو الاعتراف بهذا التجلّي، وهو موقف تأملّي وسجودي أمامه، وهو من جهة أُخرى الجواب الفعّال الذي يُدخل شخصيًا في التصميم الإلهي.
وجدت إليزابيت أصل الدعوة إلى المجد داخل الثالوث، متأمّلةً تمجيد الحب المُتبادل بين الآب، والابن، والروح القدس. هذه الدعوة تُصبح أكثر فهمًا عندما تعني الإنسان مباشرةً، أي ذاك الذي على الرغم من عدم ضرورته لتمجيد الآب، والابن والروح، يصبح جزءًا منها، وذلك بنعمة مجانية منهم. إن الاختيار المُقرّر داخل الثالوث، قبل الزمن في الأبدية ومن دون شرط، والقائم على الحب يكشف الطبيعة الحقيقية لصاحب الدعوة. أمّا تجسّد المسيح فقد ذكَّر بكرامة الإنسان وأكّد عليها لأنه مخلوق على صورة الله، ولهذا فهو مدعو إلى المجد : "الكلمة صار جسدًا وسكن بيننا ". إنّ الله قال : " كونوا قديسين لأني أنا قدّوس (ا بط 1/16)؛ (أح 11/44-54). لكنّه بقيَ مُختبِئًا في نورٍ لا يُقترب منه (طيم 6/16). كانت الخليقة في حاجة إلى أن ينزل حتى إليها وأن يحيا في حياتها، كي تستطيع، وهي تقتفي آثاره، أن تصعدَ إليه ثانية (1 بط 2/21)، وتُصبح قديسة من قداسته " (الرياضة الأخيرة، 29).
إنّ الجواب على المجد الذي صار له قريبًا في شخص المسيح، بحسب شهادة إليزابيت، اتجاه مزدوج : الأول هو السجود، والثاني هو التسبيح. فالطوباوية تعترف، أولاً، بعطية الحياة من الله في ذاته، وتعترف بعظمة الدعوة إلى أن تُقيم معه (نعيش معه). لكن هذا " الحب الكبير جدًا " من قِبل الله يجعلها تكتشف، على الأرجح، الفرق والمسافة بين الخالق والمخلوق – هما هُوَّتان – ويُحرِّك فيها فعل السجود. إنّ إليزابيت على الرغم من التناقض هذا، تسير قُدمًا وترى دعوتها تدور في دفق الحب الثالوثي المُتبادل، هي لا تعبد حياة الله في ذاته فقط، مُقرّة بعدميّتها إزاء كليّة الله، بل هي تحتفل الآن وتسبّح هذا الحضور، أي تشعر بأنها مُشارك فعّال في مجد الله. هكذا تجد الدعوة الأبدية إلى المجد جوابًا أبديًا في الدعوة إلى التسبيح.
" تسبحة مجد " – من التسبيح إلى المجد :
إننا نرى الآن بوضوح، من خلال اختبار إليزابيت، بأنّ وجودنا هو احتفال بحياة الله : إنّ الذي يسكن فينا يدعونا إلى التسبيح. إنّ السجود الحق، استنادًا إلى كلمات يسوع التي قالها للسامرية والتي أعادت قولها إليزابيت، تكون بالروح والحق، أي من خلال إيماننا وأعمالنا، وباختصار، من خلال حياتنا كلها. نحن، بهذه الملاحظة، لا نُلغي العبادة الليتورجية التي تجري في الكنيسة، لكن وبكلّ بساطة نؤكّد بأنّ الاحتفال الليتورجي هو ذروة حياتنا (نحتفل بما نريد أن نعيشه في الملء)، غير أنّ هذا الاحتفال لا يجدر به أن يقتصر على زمن محدّد ولا على مكان معيّن، بل يجب عليه أن يشمل الحياة المسيحية كلّها. عندما أُشارك في الاحتفال الليتورجي أقول "نعم" لله، وأعترف بأهميّة حضوره في حياتي. فالاحتفال الذي يطال حياتي كلّها يصبح سجودًا روحيًا وتسبيحًا للثالوث غير مُتناه. يصل كل هذا إلى ملئه عندما أعرف، أنا المخلوق "لتسبحة مجد"، "تصميم المجد الإلهي"، أي قصد الله الذي عليه أن يكون لوجود مجده غاية واحدة : أن أحتفل بحياة الله فيَّ، وأترك ذاتي كي تتكوّن من أسراره.
إن المسيح، بعد أن جعل مجد الله ظاهرًا في وسط العالم، أصبح مثالاً لتسبحتنا؛ فحياة المسيحي المشاركَة لحياته تصبح عبادة حقّة. يقول Schillebeeckx : " إن حياة يسوع وموته ليس هما في ذاتهما أعمالاً " ليتورجية "، وطقسية، ورغم ذلك فقد فسّرهما يسوع عينه، والجماعة الرسولية، على أنّهما ليتورجية حقيقية، ووحيدة، ونهائية ". إنّه احتفال بحبّ الآب الذي إليه دُعينا نحن أيضًا.
سنُنهي، كل ما قلناه حتى الآن، بكلمات القديس بولس التي تفسّر بالتمام واقع التسبيح، والعبادة الروحية، والاحتفال المتواصل، وليتورجية الوجود : " إني أناشدكم إذًا، أيّها الإخوة، بحنان الله أن تُقرّبوا أشخاصَكم ذبيحةً حيَّةً مُقدسةً مرضيّةً عند الله. فهذه هي عبادتكم الروحية" (روم 12/1).