"زهرة الأرض المقدَّسَة ورهبانيَّة الكرمَل"
القدِّيسَة مريم ليسوع المصلوب الكرمليَّة
كتابة الأب نوهرا صفير الكرملي
مع مشاعر الحبّ كلها، وروح الإيمان والعطش إلى ينابيع القداسة الحقيقية، نتوقَّف أمام عملاقة مشرقيَّة وهي القدِّيسة الكرمليَّة الشَّابَّة: مريم ليسوع المصلوب، "زهرة الأرض المقدَّسَة ورهبانيَّة الكرمَل". تكلَّلت حياة هذه القدِّيسة المشرقيَّة بجمال الاتّحاد العميق والحقيقي مع الرَّبّ يسوع، فغَدَتْ للعالم عرساً روحيًّا ملؤُهُ السَّلام،
والمحبَّة، والمصالحة، والرّجاء، حيثُ نسيرُ معاً على خطى قدِّيسة الأراضي المقدَّسة مريمُ البارَّة.
عبَّر البابا القدِّيس يوحنا بولس الثاني، سنة 1983 قائلاً: " إنَّ مريم ليسوع المصلوب راهبةٌ كرمليَة من رهبانيَّة الكَرمَل الحُفاة، وُلِدَت على الأرضِ التي شهدَتْ حياةَ يسوع في الناصرة، الأرضِ التي ما زالت، حتى أيامنا هذه، سببَ هموم كبيرة لنا ومركز نزاعاتٍ أليمة، إنّ خادمةَ المسيح المتواضعة، مريم ليسوع المصلوب، تنتمي من حيث العِرقُ والطقسُ والدعوةُ وتنقّلاتها الكثيرة إلى شعوب الشرق، وهي اليوم ممثَّلة لهم ".
فعلاً، كما قال قداستهُ، مريم ليسوع المصلوب، هي ابنةُ أرضنا، وشرقِنا، وعِرقنا، وطقسِنا، وهي اليوم تحُثُّنا أكثر على التمسُّك بجذورنا وهويَّتِنا وتراثِنا وعيشِنا المشترك، عبر محبَّة بعضِنا البعض، والدخول إلى العمق عبر التفاهُم والتلاقي، هي التي دُعِيَت شفيعة السَّلام.
مريم ليسوع المصلوب، هذه الراهبة الكرمليَّة الحبيسَة، لا تجوب العالم، إلاَّ لننظُر ونتأمَّل في سيرة حياتها الخارقة التي جسَّدت حياة القداسة في صيغة بسيطة، وجعلتها في متناول النفوس التي تعجز عن اتباع الطرق المؤدّية إلى الملكوت. إنَّها القدِّيسة التي عرفت أن تتَّكِل دائماً على الله وحدهُ، على الرغم ممَّا تخفيه هذه النفس من عذابات، وصلبان وصعوبات. وقد عرفت أن تكون سعيدة حتى في وسط الظلمات التي اجتازتها:
أعلنها البابا القدِّيس يوحنا بولس الثاني طوباوية في الثالث عشر من شهر تشرين الثاني من سنة 1983.
أعلنها البابا فرنسيس قدِّيسة، في السابع عشر من شهر أيَّار من سنة 2015.
إذاً، هذه الكرمليَّة الشَّابة المشرقيَّة التي وُلِدَت في 5 كانون الثاني 1846، في قرية عبلّين، إحدى قرى الجليل الصغيرة، الواقعة في منتصف الطريق بين الناصرة وحيفا، من عائلةٍ تنتمي إلى كنيسَة الروم الملكيِّين الكاثوليك، عرفت كيف تستسلم بكليَّتها إلى الله أبيها كما كانت تدعوه: "إنَّهُ أبونا، هلمّوا نسجُد لهُ"، وهي راضية بكل ما يريدهُ لها، ويؤولُ إلى خيرها، حسب خطَّة المحبَّة التي رسمَها لها هذا الآب الكليّ الحنان والرَّحمة اللاَّمتناهية.
عاشت القدِّيسَة مريم ليسوع المصلوب حياة بطوليَّة، بطولة الطريق "طريق البساطة والتواضُع". كانت تطلق على نفسها إسماً وهو:
"العدمُ الصغير"، وعن التواضع قالت: "التواضُعُ مسرورٌ سعيدٌ، في كلِّ مكانٍ سعيد، راضٍ عن كلِّ شيء، طوبى للصغار".
فارتقت في غضون سنوات قليلة إلى قمم مدهشة من الإيمان والرجاء والمحبَّة. قالت مريم: "حيثُ توجدُ المحبَّة، يوجدُ الله أيضاً.
إذا فكَّرتُم في عمل الخير مع أخيكم، سيفكّرُ الله فيكم. إذا حفرتُم حفرةً لأخيكُم ستقعونَ أنتم فيها وستكون لكم، لكن إن صنعتُم سماءً لأخيكُم،
سوف تكون لكم". وفي قلب الظلمات التي اجتازتها، عرفت كيف تظلّ أمينة ليسوع، على الرغم من المحن الروحيَّة والنفسيَّة والصحيَّة التي
عاشتها واختبرتها، ومع ذلك ثابرت على الامتثال إلى توجيهات أخواتها الراهبات الكرمليَّات، في كلّ ما يتعلَّق بالمتطلِّبات الرسوليَّة للكنيسة.
قالت عن نفسِها يوماً إنَّها "بنت الطاعة"، وكتبت تقول: "الطاعةُ بروحِ الإيمان، هي أفضلُ الطرقِ لدمجِ إرادتنِا بإرادةِ الله".
وجدَت مريم ليسوع المصلوب في حياتها الكرمليَّة ما كانت تسعى إليه. ولَكَم كانت الطبيعة لها أيضاً مصدر إطلالة حبِّ الله عليها، حتى أكثرت من الاستعارات والتشابيه المتعلِّقة والمأخوذة من الطبيعة: كالورود، والطيور، والشمس، والعاصفة، والمطر، والضباب، التي تسبِّح الله بدورها عوضاً عن الإنسان النائم. قالت مريم: "العالم كلّهُ نائم، والله المليء بالطيبَة، الرَّبّ العظيم المستحقّ كلّ تسبيح منسيّ، لا أحد يفكِّرُ فيه. أنظر الطبيعَة تسبّحُهُ، السّماءُ والنّجوم، والأشجار والأعشاب، كلُّ شيءٍ يسبِّحُهُ، والإنسان العارفُ بإحساناتِهِ، والذي يجب عليهِ أن يُسبِّحُهُ، نائمٌ. هيَّا لنذهبَ ونوقِظَ الكون".
إثنان وثلاثون سنة هي حياة القدِّيسة مريم ليسوع المصلوب على هذه الأرض، إذا عُدنا وتأمَّلنا فيها، لرأينا أنَّها قليلة أمام عيوننا البشرية، لكنها كاملة في نظر الله الكليّ القدرة. خلال تلك السنين التي عاشت فيها اختبارات عُظمَى، منحها الله حياةً عطرة، حملت الكثير من الأعمال الجبَّارة، والعظيمة، والأقوال الصالحة التي تلفَّظت بها في انخطافاتها، فغدَت لنا موسوعةً ثمينة لحياتنا اليوميَّة.
استطاعت القديسة مريم ليسوع المصلوب أن تكتشف تدبير عمل الله لها، ورسمت لنفسِها طريقاً ملؤهُ التواضُع، بشَّرت به العالم أجمع في الصعود نحو طريق الكمَال عبر سُلَّم القداسَة.
هذه القديسة المشرقيَّة، العربيَّة، الصغيرة، الكبيرة، العظيمَة، والكرمليَّة الحبيسَة، التي تُزيِّن أيقونتها المقدّسة، وصورها، عدداً وافراً من كنائسنا وأديارنا وبيوتنا، تستقطب في أيامنا هذه، عدداً كبيراً من المؤمنين، الذين يلتمسون شفاعتها في:
الحالات المستحيلة والمستعصية.
نعمَة الشفاء من الأمراض التي عَجِزَ الطبّ على معالجتها.
عودة الخطأة إلى التوبة، والرجوع إلى جوهر الصلاة والحياة الحقيقيَّة مع يسوع.
حماية المسيحيِّين المضطهدين الذين تحيط بهم أخطار الحروب والقتل والتشريد، إلخ...
حقاً كثيرةٌ هي النِّعَم التي نالها عدد كبير من المسيحيِّين وغير المسيحيِّين بشفاعتها، وهي كثيرة لا عدَّ لها ومثبَّتة في أديار الراهبات الكرمليَّات الحبيسَات في الأراضي المقدَّسَة. واليوم، فلنُبادر أيُّها الإخوة إليها بطلباتنا ونوايانا، وهي تعرف كيف تشفعُ لنا لدى الربّ الإله الكليّ الرَّحمَة، الذي وهبت لهُ كلِّ شيء، وكلَّ لحظة من حياتها.
صلاتُها معنا. آمين.