كرمليَّة من شرقِنا ... القدِّيسَة مريم ليسوع المصلوب
كتابة الأب نوهرا صفير الكرملي
مريم ليسوع المصلوب، صبيّة، عربيّة، مسيحيّة، وكرمليَّة شرقيَّة
هناك في ساحة القدِّيس بطرس في روما – الفاتيكان عاصمة الكثلكة، يوم 17 أيار 2015، إبَّان القدَّاس الإلهي، أدرجَ قداسَة الحبر الأعظم
البابا فرنسيس، في لائحة القدِّيسين، اسم القدِّيسة مريم ليسوع المصلوب، الراهبة الكرمليَّة الحبيسَة، وهِيَ ابنةُ القدّيسة الكبيرة وملفانة الكنيسَة تريزا ليسوع الأفيليّة، التي اختارت ألَّا تملكَ أيَّ غنىً سوى حبّ الله. "اللهُ وحدهُ يكفي". وقد عاشت بحسَب هذا المبدأ بصورةٍ مميّزة، سواء من ناحية حياتها الخارجيّة، أم الداخليّة الخارقة.
إنَّ حياة مريم بواردي أو مريم ليسوع المصلوب، هِيَ حياةُ صبيّةٍ عربيّة مسيحيّة، شاهدة للتواضع والاستسلام الكامل للروح. وهِيَ اليوم تدعونا وتشجّعنا أكثر في الطريق الصعب، طريق الأمانة للإنجيل في قلب هذا العالم المليء بالحروب والقتل والعنف.
استطاعت بفضل حياتها الكرمليّة، أن تكون قريبة من مسيحيّي الشرق والغرب، كجسر عبورٍ، تقدّمُ للغرب غنى التقليد الشرقي وجماله ومَكَانته في الحياة المسيحيَّة، وتدعو مسيحيّي الغرب لمساندة إخوتهم الشرقيّين في الصلاة.
في شخص مريم ليسوع المصلوب، نكتشف عملَ الروح في قلبٍ استسلم لله وترك الروح يذهب به في مغامرة الحبّ. هذه المغامرة تلتقي مع التقليد الروحي لرهبنة الكرمَل التي نشأت على جبل الكرمَل مع النبي إيليّا. هذا التقليد أساسُه الصلاة والتأمُّل بكلمة الله، ونحن مدعوّون، مع مريم العذراء سيّدة جبل الكرمَل، أن نحفظَه ونتأمّله في قلبنا. وقد استمرّ هذا التقليد حتّى تواصل بالجذور الثقافيّة والروحيّة لمريم ليسوع المصلوب، التي كانت نَبيّةً في زمانها، وعلى مثال القدّيسة الكرمليَّة الشَّابة تريز الطفل يسوع والوجه الأقدس، فتحت طريقاً صغيراً وحبًّا كبيراً لكلّ شخصٍ يسعى إلى أن يسير هذا الطريق بثقةٍ كبيرة.
قلبُ خبرتها الروحيّة وتواضعها العميق هو تسليمُها الكامل للروح القدس. مريم لم تكتبْ شيئاً، إنّ أخواتَها الراهبات كتبن جميع رسائلها ودوّنّها أثناء انخطافاتها. وتتكلّم هذه الرسائل عن غنى حياتها الروحيّة وجرأتها واستسلامها الكلّي لمشيئة الله وعمله في حياتها.
مَن هِيَ مريم ليسوع المصلوب - الراهبة الكرمليّة الحبيسة؟
مريم بواردي، وفي الرهبانيّة الكرمليّة، مريم ليسوع المصلوب، هِيَ بنتُ الأراضي المقدّسة، من طائفة الروم الملكيّين الكاثوليك. وُلِدَت في 5 كانون الثاني 1846 في عْبَلّين، وهي قرية صغيرة في الجليل، تقع بين الناصرة وحيفا. عَمِلَت كخادمة وتنقّلت بين الإسكندريّة والقدس وبيروت ومرسيليا. وفي التاسعة عشر من عمرها، دخلت ديرَ راهبات مار يوسف للظهور. وفي هذه المرحلة، عاشت آلامَ المسيح وظهرت جروحاتُه في جسدها مع شتى أنواع الرؤى والانخطافات. وبعد سنتيْن من الابتداء، لم تُقبَلْ مريم لتصبحَ راهبة لديهنّ.
بعد ذلك، أخذتها رئيسةُ راهبات مار يوسف للظهور إلى دير الكرمَل في مدينة بو Pau، جنوب فرنسا. وبعد ثلاث سنوات، في العام 1870، شاركت، مع مجموعةٍ صغيرة من الراهبات، في تأسيس أوّل ديرٍ للراهبات الكرمليّات الحبيسات في الهند، في مدينة مانغالور. وفي 20 نيسان 1875، سافرت مع مجموعةٍ من الراهبات إلى الأراضي المقدّسة لتأسيس دير الكرمَل في بيت لحم، وفي آب 1878، شاركت في تأسيس دير الكرمَل في الناصرة.
تُوفّيَت مريم ليسوع المصلوب في 26 آب 1878 عن 32 سنة. وطوّبها البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني في 13 تشرين الثاني 1983.
مريم ليسوع المصلوب، هِيَ علامةَ أمانةٍ ورجاء.
مريم هِيَ ثمرةُ الأرض المقدّسة، فيها كلُّ ما يحدّثنا عن يسوع، خصوصاً الأماكن التي عاشت فيها، حيث قَسَت عليها الأحداثُ والأيّام والناس. وعلى الرغم من هذا كلّه، بَقِيَت تزرع السلام. أرادت أن تكون الأخت الصغيرة للجميع. قال عنها البابا القدّيس يوحنّا بولس الثاني في يوم تطويبها: "أرادت أن تكون الأخت الصغيرة للجميع.
مِثالُها ثمينٌ في عالَمِنا المُمَزّق والمُنقَسِم الذي يغرَق بسهولةٍ في الظلم والكراهِيَة".
استطاعت القديسة مريم ليسوع المصلوب أن تكتشف تدبير عمل الله لها، ورسمت لنفسِها طريقاً ملؤهُ التواضُع، بشَّرت به العالم أجمع في الصعود نحو طريق الكمَال عبر سُلَّم القداسَة.
مريم ليسوع المصلوب علامةٌ مميّزة للمصالحة ولجميع الذين يريدون أن يعيشوا معها في مدرسة الروح القدس. في هذه العلامة نرى ثلاثة أمور:
مريم ليسوع المصلوب التي تنتمي إلى كنيسة الروم الملكيّين الكاثوليك، والتي بدخولها دير الكرمَل ارتبطت بالكنيسة اللاتينيّة، هِيَ وجهٌ آخر، أي لقاء الكنائس والشَرِكَة.
مريم ليسوع المصلوب هِيَ ثمرةُ قداسةٍ في كنيسة الشرق. تدعو اليوم جميعَ إخوتها إلى شَرِكَةٍ حقيقيّة ووَحدة. ولا يتمّ تحقيقُ هذه الوَحدة إلّا بالمحبّة والحقيقة. مريم بواردي تشجّع اليوم كلَّ واحدٍ منّا على الثبات في الإيمان وعدم التخلّي عن أيّ شيءٍ من ممارساتنا وانتمائنا المسيحي. وفي وسط الأوضاع المؤلمة التي يعيشها مسيحيّو الشرق، تبقى هِيَ علامةَ أمانةٍ ورجاء، توجّه إخوتَها صوب المسيح.
في الوضع الحالي لمسيحيّي الشرق الأوسط، مريم ليسوع المصلوب هِيَ جسرٌ بين الشرق والغرب. وما زالت رسالتها تصل إلى أكبر عددٍ من الناس، حتّى اليوم، وهِيَ تشجّعهم ليتتلمذوا في مدرسة الروح القدس ويسلّموا حياتَهم لروح الله.
طوبى للفقراء، للرحماء، لأطهار القلوب، لصانعي السلام... هذا مشروع حياةٍ يسكنها الروح القدس، حيث يلتقي الحق والمحبّة.
هكذا كانت مغامرة مريم ليسوع المصلوب، التي تقول بدورها: "لا يقدر أن يملأَ قلبَ الإنسان إلّا الحبّ".
صلاتها معنا. آمين.