مَريَم والقدِّيس يوحنَّا للصليب الكرمَلي
كتابة الأب نوهرا صفير الكرمَلي
إنَّ القدِّيس يوحنَّا للصليب هو إبن الرَّهبَانيَّة الكَرمَليَّة ومعلِّم الكنيسَة الجَامِعَة ويَملك إختباراً مميَّزاً جَعلَ منهُ ومِن تلاميذِهِ الكرمليِّين معلِّمين في الحيَاة الروحيَّة. أمَّا كتابَاتِهِ وأشعَارِهِ والقصَائِد التي كتبَهَا، بقيَت دليلاً هادياً في دروب الروح، والكنيسَة الجَامِعَة المقدَّسَة تعتبرُهَا نوراً للرَّاغبين بخوض هذه المغامرة الصعبَة.
إكتشَفَ القدِيس يوحنَّا للصليب شخصَ العَذراء القدِّيسَة في الكتاب المقدَّس، وفي حبِّهِ العَميق لهَا، هي التي دخلَتْ مَعَهُ في علاقة مميَّزة منذ طفولتِهِ."كان يوحنَّا في طفولته يحبّ اللعب، وقد ذهب يوماً مع بعض رفاقه للَّعب قرب مستنقعٍ، فإذا بقدمِه تزلُّ فيسقط في المستنقع... فيغمُرُهُ الماءُ الآسن. فإذا بالرفاق يَهرَعون لطلب النجدة. وبينما يوحنَّا لا يزال في المستنقع، إذا به يرى سيِّدة جميلة تنحَني نحوهُ وتقول: "أيّها الولد الصغير أعطني يدك وأنا أنتشلكَ من الماء"... مدَّ يوحنَّا ذراعيه وما لبِثَ أن أعادَهُما، إذ كيفَ سيَضع يديه المتَّسختين بالوحل في يديّ مَلِكَة السمَاء الطاهرتين. كلا! فمِنَ الأفضَل لهُ أن يغرق. ومرَّ من هناك أحد القرويِّين الذي مدَّ إليه خشبَة فتعلّق به يوحنا وخرج إلى اليابسَة.
كَانَ لهَذا الحَادث في حَيَاة يوحنَّا الأثر العَميق إذ اكتشَفَ في عمق ذاتِهِ أنَّ مَريَم هي الأمّ والمحَاميَة لهُ. كان قلب يوحنَّا يصبو دائماً إلى فوق، إلى الله. فلماذا لا يترك كلَّ شيء في سبيل محبّته وخدمته! ألم يقل الرَّبُّ يَسوع: مَن أراد أن يتبعني فليزهد بنفسه ويحمل صليبه كلَّ يومٍ ويتبعني... ناداه المسيح فلبّى يوحنا النداء. وهذه هي الدعوة. دخَلَ بَعدَهَا في الرَّهبَانيَّة الكرمليَّة واتَّشَحَ بالزيّ الكَرمَليَّ، وتعمَّقَ في دراسَة اللاهوت ثمَّ سيمَ كاهناً.
إنّ الله كان يدعو يوحنَّا إلى قمّة الجَبَل. عانى في حَيَاتِهِ أشَدَّ أنواع الآلام، سُجنَ لمدَّة تِسعَة أشهر وهو على مثال معلّمه يسوع، كان يلزم الصمت ولا يفوه بكلمة. عزم يوحنَّا على الهروب من سجنه. فَصَنَعَ حبل النجاة من غطائيه بعد شقّهما وفتلهما رابطًا الأطراف بعضها ببعض. ثم حلّ البراغي عن شباك السجن وتدلّى منه ولاذ بالهروب. وتوجّه إلى دير الراهبات الكرمليَّات المحصَّنات، وأخبرهنّ أنّ العذراء سيّدة الكرمل هي التي سمحت له بالفرار، لأنّ أعمالاً عظيمة تنتظره في سبيل الإصلاح...
رأى يوحنَّا في مَريَم، بعد الرَّبّ يسوع، التسبحَة الكاملة لمجد الآب. مَريَم في مفهومِهِ هي "العذراء الأمينة"، والتعبير الأمثل والأكمَل عن دعوتِهِ الشخصيَّة وذلكَ على ضَوء اختباره، إختبَار الألم، والتسليم، والحُبّ، والرَّغبة في مشابهَة الرَّبّ يَسوع. مَريَم هي إمرأة الصَمت والإختلاء، وهي عذراء التجسُّد التي تجسَّدَ الكلمة الساكن في أحشائِهَا.
إنَّ نظرَة القدِّيس يوحنَّا للصليب إلى مَريَم على أنَّهَا ليسَت أمَّ يَسوع فحَسب بل أمِّه أيضاً. إنَّهَا تمثِّل وتعبِّر أيضاً عن الموقِف الأساسيّ للنفس تجاه الله. إنها نفس البشريَّة العطشى إلى الله، والتي تنتظرهُ وترجوه وتوجِّه إليه جميع قواها وطاقاتِهَا، لكي تتلقَّاه وتعيش منهُ عيشاً كاملاً. وَمَريَم أيضاً محط تجاوب مع الله وموضوع حلوله. ففيهَا تعي البَشَريَّة شوق الله ورغبتُهُ الفعَّالة في إعطاء ذاتِهِ للإنسان. ومَريَم هي موضِع اللقاء، أو بالأحرى هي الهيكل الذي فيه يتِمّ إتحاد الله مَعَ البَشريَّة، المَعبَد الخفيّ الذي فيه يقترن العريس بعروسِهِ، والبريَّة التي تزهر بأنفاس روح الله.
تغنَّى يوحنَّا بمَن اتَّخذَهَا أمَّهُ وشفيعَتهُ، فكانَ لهَا ذِكرٌ مميَّز في بعض المقاطِع الشعريَّة التي ألَّفَهَا كغنائيَّة في سِرّ التجَسُّد حولَ إنجيل القدِّيس يوحنَّا "في البَدء كانَ الكلِمَة": "والأمّ البَهيَّة، وضعَتهُ في مِذود... والأمّ كانت في ذهول لرؤيَتِهَا هذا التبَادل..." في هذه الغنائيَّة أظهَرَ يوحنَّا عظمَة سرّ التجسُّد الإلهيّ وعظمَة مَريَم في تاريخ ومَشروع الخلاص، أظهَرَ عظمَتهَا في الطاعَة لِعَمَل ومَشيئَة الله في حَيَاتِهَا، في إيمَانِهَا وتسليمها الكلّي لهُ، في البَتوليَّة والأمومَة.
"... العَذراء الحَامِل بالكَلِمَة الإلهيَّة هي آتيَة: هلاَّ أضفتموهَا؟" (كتاب الأعمَال الصغرى).
نعَم إنَّ العَذراء القدِّيسَة هي نموذج للنفس. ويوحنَّا على مثال مَريَم (لوقا 2: 19) سمِعَ كلام الله وتأمّل فيه "ليلاً ونهاراً". فإنَّ البَتول القدِّيسَة ليست تلك الأمّ العجيبة والحبيبة فحَسب، بل هي الغمامة التي اختارها الله وقادها لتكونَ أمّ المخلِّص، وهي أطهر وأسمى وأكمَل تعبير عن النفس التي تتفتَّح لِعَمَل الله والتي تكتمل في نوره وفي مَحَبَّتِهِ. فقال: "مباركة هي سيدتنا التي ستُخرجني من هذه الحياة إلى السماء مباشرة حيث سأصلّي فرض الصباح معها وذلك في 14 كانون الأول".
مَريَم هي مَسكن الله، هي التي استقبلتْ إبن الله في أحشائِها وَعَبَدتهُ بالروح والحَقّ (يو 33، 4). إنَّ غنائيَّة البدء تُظهِر لنا كيفَ أنَّ موقِفَ البَتول القدِّيسَة مِن لحظة البشَارَة حتى الميلاد، هو نموذجٌ لكلِّ الأنفس التي تحيَا حيَاة داخليَّة. موقف مريَم في تلك الفترة، كانَ موقف حبّ، تألَّهَتْ بها الأمور فعظَّمَتهَا مِن بَعدُ جَميعُ الأجيَال، لأنَّ القديرَ صنعَ بهَا العَظائِم.
سَوفَ تطوِّبني جَميعُ الأجيَال... في كتاب (صعود جَبَل الكَرمِل 3: 2، 10)، يؤكِّد لنا قدِّيسنا الكرمَلي كيفَ انَّ الله صَنعَ العَظائِمَ في نفس البَتول القدِّيسَة، وكيفَ أنَّ الله رفعَهَا إلى حَالة "الإستِحَالة بالله"، أي الإتِّحَاد الكلِّي بهِ والأكثر سموّاً: "إنَّ الله رفعَهَا منذُ البدايَة إلى هذِهِ القمَّة السَّامِيَة ولم تنطبع في نفسِهَا أيَّة صورة مِنَ المَخلوقات ولم تتحرَّك مِن أجل أيِّ شيء مِن هذا القبيل، بَل كانت دائِماً تعمَل بتحريك مِنَ الرّوح القدس".
مَريَم هي الغمامة التي اختارها الآب القدّوس وقادها لتكونَ أمّ المخلِّص، وهي أطهر وأسمى وأكمَل تعبير عن النفس التي تتفتَّح لِعَمَل الله والتي تكتمل في نوره وفي مَحَبَّتِهِ. فهي بذلك أكمَل نفس متطلِّعَة. وهذا مَا قد سمّاه القدِّيس يوحنَّا للصليب: "إتِّحَاد الحُبّ على نحو تستحيل النَّفس فيه إلهيَّة بالمشارَكة". (النشيد الروحي 22: 3).