يوحنَّا الصليب "المعلّم الصوفي"
لقداسة البابا بنديكتس السادس عشر، الفاتيكان، الأربعاء 18 فبراير 2011
(حاضرة الفاتيكان ، الجمعة 18 فبراير 2011 (Zenit.org) . ننشرُ فيما يلي تعليم هذا الأربعاء لقداسة البابا بندكتس السادس عشر في مقابلته العامة في قاعة بولس السادس مع الحجاج الوافدين من كلّ أنحاء العالم).
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء،
استعرضتُ قبل أسبوعين شخصيةً صوفية أسبانية كبيرة، ألا وهي تريزا ليسوع الأفيليَّة. وأريدُ التحدّثَ اليوم عن قديسٍ مهمٍ آخر من تلك الأراضي، صديق روحي للقديسة تريزا، إذ قاما سويةً بإصلاح الرهبانية الكرملية. إنّه القديس يوحنّا الصليب الذي أعلنه البابا بيوس الحادي عشر معلمًا للكنيسة عام 1926، وأُطلِقَ عليه في تقليد الآباء المعلمين الصوفيين اسم “المعلّم الصوفي”
ولِدَ يوحنّا الصليب عام 1542 في قرية فونتيفيروس الصغيرة، بالقرب من آفيلا في القساطِلة القديمة، من كونتزالو دي ييبس و كاتالينا الفاريز. كانت عائلتُه فقيرةً جدًا، لأنّ الأب، من أصلٍ طليطلي، طُرِدَ من البيت وحُرِمَ من الميراث بسبب زواجه من كاتالينا حائكة الحرير البسيطة. فانتقل يوحنّا، يتيم الأب بعمرِ تسع سنوات، مع والدته وأخيه فرانسيسكو، إلى مدينا ديل كامبو القريبة من فالادوليد، المركز التجاري والثقافي. وهناك التحقَ بكليّة دي لوس دوكترينوس حيث كان يقومُ ببعض الأعمال المتواضعة لخدمة راهبات كنيسة ودير المجدلية. ونظرًا لشخصيته ونتائجه في الدراسة، عُيّنَ فيما بعد ممرضًا في مستشفى الحبل بلا دنس، ثمّ في كلية اليسوعيين التي كانت قد تأسست للتوّ في مدينا ديل كامبو. ودخلَ يوحنّا ذات الثمانية عشر عامًا إلى الكلية ودرس لثلاثة سنين العلومَ الإنسانية والبلاغة واللغات الكلاسيكية. وفي نهاية مرحلة التنشئة، توضّحت ملامح دعوته الخاصّة: الحياة الرهبانية، ومن بين الرهبانيات العديدة في مدينا، شعرَ بدعوته إلى الحياة الكرملية.
في صيف عام 1563، بدأ يوحنّا مرحلة الابتداء عند الكرمليِّين في المدينة، متخذًا اسمًا رهبانيًا وهو متيَّا. وفي العام اللاحق أُرسِلَ إلى جامعة سالامانكا المشهورة، حيث درس ثلاث سنوات الفن والفلسفة. ورُسِمَ كاهنًا عام 1567 ورجع إلى مدينا ديل كامبو للاحتفال بقدّاسه الأول محاطًا بحنان عائلته وأقربائه. وجرى هنا بالضبط اللقاءُ الأول بين يوحنّا وتريزا ليسوع. وكان لقاءً حاسمًا لكليهما، إذ عرضت عليه تريزا خطّتها لإصلاح رهبنة الكرمل، بفرعها الرجالي أيضًا، واقترحت عليه الانضمام إليها “من أجل تمجيدٍ أعظم لله”. انجذب الكاهنُ الشاب لأفكار تريزا، حتّى أصبحَ مساندًا كبيرًا للمشروع. وعمل الاثنان سويةً بضعة أشهر متقاسمين الأفكار والاقتراحات من أجل إفتتاح أولّ بيتٍ للكرمليين الحفاة بأسرع ما يمكن. وتمّ الافتتاح فعلاً في 28 ديسمبر 1568 في دوريلو، موضع للتوحّد في مقاطعة افيلا. ومع يوحنا أسسَ ثلاثة رفاقٍ أخرين له أولَ جماعةٍ رجالية مُصلِحة. وفي تجديد تكريسهم الرهباني بحسب القاعدة الرهبانية الأوليّة، تبنّى الأربعة اسمًا جديدًا: فسُميّ يوحنّا بـ”الصليب”، كما سيُعرَفُ بهذا الاسم في كلّ العالم. وفي نهاية عام 1572، وبناءً على طلب القديسة تريزا، أصبحَ يوحنّا معرّفًا ومدبّرًا لدير التجسّد في افيلا الذي ترأسه القديسة ذاتها. فكانت سنواتٌ من التعاون والصداقة الروحية التي أغنت كليهما! وترجعُ إلى تلك الفترة الأعمالُ الثمينة لتريزا والكتاباتُ الأولى ليوحنّا.
لم يكن الانضمام إلى الإصلاح الكرملي أمرًا سهلاً ليوحنّا، لا بل كلّفه معاناة كبيرة. والحدثُ الذي سبّبَ له صدمةً كبيرة كان عام 1577، عندما خُطِفَ وسُجِنَ في دير التقيّد القديم للكرمليات في طليطة، بعد اتّهامه باطلاً. وبقيَ القديسُ سجينًا لأشهر يتحمّل الحرمان والإكراه الجسدي والمعنوي. وهنا ألّفَ، إلى جانب العديد من الأشعار الأخرى، مؤلّفه الروحي الشهير.
ونجحَ أخيرًا في ليلة 16 على 17 أغسطس 1578 في الهروب بمغامرةٍ عائدًا إلى دير الكرمليات الحافيات في المدينة. فاحتفلت القديسة تريزا ورفيقاتها المصلحات بفرحٍ كبير بإخلاء سبيله. وبعد مدةٍ قصيرة استعادَ فيه قوته، أُرسِلَ إلى الأندلس حيث قضى عشر سنين في مختلف الأديرة وخاصةً في كرانادا. كما تولّى مناصب مهمّة في الرهبنة حتّى أنّه أصبحَ مدبرًا أقليميًا، وأكمل تحرير مؤلفاته الروحية. ورجع من ثمّ إلى أرض مولده، كعضوٍ في الرئاسة العامّة للعائلة الرهبانية التريزية، والتي كانت تتمتعُ في وقتها باستقلالٍ قانوني كامل. وسكنَ في الكرمل في سيغوفيا، وأقام هناك الرئاسة العليا لتلك الجماعة. وفي عام 1591 تخلّى عن كلّ مسؤولياته وأُرسِلَ إلى الاقليم الرهباني الجديد في المكسيك. وبينما كان يُعدُّ نفسه للرحلة الطويلة مع عشرة رفاقٍ آخرين وقبل الرحيل، اختلى في ديرٍ منفرد قريب على جان وهناك أُصيبَ بمرضٍ خطير. وواجه يوحنا بصفاءٍ وصبر كاملين معاناة جمّة. وماتَ في ليلة 13 على 14 ديسمبر 1591، بينما كان الإخوة يتلون صلاة الفرض الصباحية. فقال لهم: “سأذهبُ اليوم لأتلو صلاة الفرض في السماء”. ونُقِلَت جسده إلى سيغوفيا. أعلنَهُ البابا كليمينت العاشر طوباويًا عام 1675، ثمّ أعلنه البابا بندكتس الثالث عشر قديسًا عام 1726.
يُعتبر القديس يوحنا واحدًا من أهم شعراء القصيدة في الأدب الأسباني. وله أربعة أعمال كبيرة: الصعود إلى جبل الكرمل، الليل المظلم، المؤلّف الروحي وشعلة الحبّ الحيَّة.
في المؤلّف الروحي، يعرضُ القديس يوحنّا مسيرةَ تطهير النفس، أي امتلاكها المستمر والسعيد لله، إلى أن تصلَ إلى الشعور بأنّها تحبُّ الله بذات الحبّ الذي أحبّها هو. ويواصلُ لهيب الحبّ الحيّ من هذا المنظور شارحًا بتفصيلٍ أكثر حالةَ الاتّحاد المغيِّر مع الله. أمّا المشابهةُ التي كان يوحنّا يستخدمها دومًا فكانت النار: فبقدر ما تكون النار قويّة لتحرقَ الخشب، فإنّها تتأججُ حتّى تصبحَ لهيبًا. هكذا الروح القدس يطهّر و”ينقّي” النفس خلال الليالي المظلمة، وينيرها شيئًا فشيئًا ويعطيها حرارة وكأنّها لهيب. إنّ حياة النفس احتفالٌ مستمر للروح القدس الذي يُري مجدَ الوحدة مع الله في الأبدية.
يقدّم الصعودُ إلى جبل الكرمل الرحلة الروحية من ناحية التطهير المستمر للنفس والضروري للبلوغ إلى قمّة الكمال المسيحي الذي ترمزُ إليه قمةُ جبل الكرمل. إنّ هذا التطهير يمثّلُ مسيرةً يبدأها الإنسانُ بالتعاون مع العمل الإلهي لتحرير النفس من أي هجومٍ أو شعورٍ يضاددُ إرادةَ الله. ويبدأُ التطهير، ولابدّ ان يكون كليًا إذا أرادَ الوصولَ إلى وحدة الحبّ مع الله، من تطهير حياة الحواس، ويواصلُ مسيرته مع التطهير الذي يُكتسَب بواسطة ثلاثة فضائل لاهوتية، الإيمان والرجاء والمحبة، التي تطهّر المقصَد والذاكرة والإرادة. ويصفُ الليل المظلم جانبَ “الإتّكال”، أي تدخّل الله في مرحلة “تطهير” النفس هذه. فالجهدُ الإنساني غيرُ قادرٍ لوحده على الوصول إلى جذور الميول والعادات الشريرة العميقة للفرد: يستطيعُ كبحها ولكنه لا يستطيعُ اقتلاعها كليًا. ولكي ينجح في ذلك، لابدّ من عمل الله الخاصّ ليطهّر الروحَ جذريًا ويعدّها لوحدة الحبّ معه. ويعرّف القديس يوحنا هذا التطهير “اتكاليًا”، فعلى الرغم من قبول النفس به، إلا أنه فعلٌ يحققُهُ عملُ الروح القدس السرّي الذي يُحرقُ كلّ نجس مثل لهيب النار. في حالتها هذه، تتعرضُ النفسُ لكل أنواع التجارب وكأنّها في ليلٍ مظلم.
إنّ هذه المؤشرات لأعمال القديس يوحنّا الرئيسية تساعدُنا على الاقتراب من النقاط المهمّة لعقيدته الصوفية الواسعة والعميقة التي تصفُ مسيرةً مظلمة نحو الوصول إلى القداسة، حالةِ الكمال التي يدعونا الله إليها جميعًا. وبحسب يوحنا الصليب، فإنّ كلّ موجودٍ مخلوقًا من الله هو حسنٌ. فمن خلال الخلائق، نستطيعُ الوصول إلى اكتشاف ذلك الذي تركَ فيها أثرًا منه. مع هذا فالإيمانُ هو المصدرُ الوحيد المُعطى للإنسان ليعرفَ الله كما هو في نفسه، كالله الواحد والثالوث. فكلّ ما أرادَ الله إيصالَه للإنسان، قالَهُ في يسوع المسيح كلمته المتجسدة. فيسوعُ المسيح هو الطريقُ الوحيد والنهائي للآب (راجع يوحنا 14، 6). وأيّ شيءٍ مخلوق هو عَدمٌ أمام الله ولا يعني شيئًا خارجًا عنه، ولذلك على أيّ حبٍ آخر أن يتلاءم في المسيح مع الحبّ الإلهي للوصول إلى حبّ الله الكامل. ومن هنا يأتي تأكيدُ القديس يوحنّا الصليب حول ضرورة التطهير وإخلاء الذات للتحوّل في الله، هدف التطهير الوحيد. هذا “التطهير” ليس مجرّد حرمانٍ جسدي من الأشياء أو من استخدامها، بل أن ما يجعلُ النفسَ نقيّةً وحرّة هو طردُ كلّ تبعيّة فوضوية على الأشياء. فكلّ شيء يجدُ في الله مركزًا وهدفًا للحياة. ومسيرةُ التطهير الطويلة والمُجهدة تتطلبُ طبعًا جهدًا شخصيًا، ولكنها في النهاية عملُ الله، فكلّ ما يستطيع الإنسانُ فعله هو “الاستعداد”، والانفتاح على العمل الإلهي وعدم وضع عوائق أمامه. ومن خلال عيش الفضائل الإلهية، يتقدّمُ الإنسان ويُعطى لجهده قيمة. فمسيرةُ نموّ الإيمان والرجاء والمحبة تتقدّم بنفس خطوات عمل التطهير والوحدة المستمرة مع الله حتّى الانتهاء إليه. عند الوصول إلى هذا الهدف، تغوصُ النفس في حياة الثالوث. هكذا يؤكدُ القدّيس يوحنّا بأنها تصلُ إلى أن تحبّ الله بذات الحبّ الذي أحبّها هو ذاته، لأنّه يحبّها في الروح القدس. وهكذا نفهم لماذا يؤكدُ المعلّم الصوفي عدمَ وجود وحدة حبٍ حقيقية مع الله إن لم تتوّج في الوحدة الثالوثية. في هذه الحالة القصوى، فإن النفس القدوسة ستعرفُ كلّ شيء في الله، وليس عليها من بعد العبورَ من خلال الخلائق للوصول إليه. إذ تشعرُ نفسها في ذلك الوقت فائضة بالحبّ الإلهي وسعيدة بصورةٍ كاملة فيه.
أيّها الإخوة والأخوات الأعزّاء، في النهاية يبقى السؤال: هل لهذا القديس، بصوفيته العالية ومسيرته المثيرة نحو قمّة الكمال، ما يقولُهُ لنا، وللمسيحي العادي الذي يعيش ظروفَ حياة اليوم، أو إنه مثالٌ ونموذج لبعض الأنفس المختارة التي تستطيعُ القيامَ بطريق التطهير والتسامي الصوفي؟ لإيجاد الجواب، علينا الأخذ بنظر الاعتبار بأنّ حياة القديس يوحنّا الصليب لم تكن “تطيرُ بين الغيوم الصوفية”، بل كانت حياةً صعبة للغاية وواقعية، سواء كمصلح للرهبنة حيث تلقّى العديد من المعارضات، أو عندما أصبح رئيسًا إقليميًا، أو عندما كان في السجن حيث كان معرّضًا لاعتداءاتٍ رهيبة وسوء معاملةٍ جسدية. كانت حياتُهُ صعبةً، ولكنه كتبَ، تمامًا في الأشهر التي قضاها في السجن، واحدةً من أروع أعماله. وهكذا نفهمُ أن السيرَ مع المسيح “الطريق” وإتبّاعه، ليس حِملاً يُضاف على حِمل حياتنا الصعب بما فيه الكفاية، ولا يزيدُ حتّى من ثِقل هذا الحِمل، بل أنه أمرٌ مختلف؛ إنّه نور قوي يساعدنا لتحمّل هذا الحِمل. فعندما يكتشفُ الإنسان حبًّا كبيرًا في داخله، فإن هذا الحبّ يعطيه مثل الأجنحة وتجعله يتحمّل بسهولة كلّ مشقّات الحياة لأنه يحملُ في داخله نورًا عظيمًا. هذا هو الإيمان: أن نكون محبوبين من الله وأن نسمح له بأن يحبّنا في المسيح يسوع، وهذا هو النور الذي يساعدنا لتحمّل حِمل كلّ يوم. فالقداسةُ ليست عملنا نحنُ، حتّى لو كان بالغ الصعوبة، ولكنه بالضبط هذا “الانفتاح”؛ فتح نوافذ أنفسنا ليدخل نورُ الله، وعدم نسيان الله لأنّ في الانفتاح على نوره تجدُ النفسُ القوّة والفرح المحترق. فلنصلّ إلى الربّ ليساعدنا على إيجاد القداسة ولنسمح لله بأن يحبّنا وهي دعوتنا جميعًا ومصدر الخلاص الحقيقي.