تريزا الأفيليَّة ويوحنّا الصليب
كتابة: المطران بولس دحدح الكرملي – النائب الرسولي لطائفة اللاتين في لبنان
ما كان المسيح يومًا ليفرّق بين أتباعه، فكم بالأحرى بين قدّيسَين عظيمَين، بين معلمَين روحيَّين، بين مُصلحَيّ الرهبنة الكرمليّة في القرن السادس عشر: تريزا الأفيليَّة ويوحنا الصليب.
ليس فقط لم يفرّق بينهما، لكنّه ربطهما بصداقة انسانيّة، رهبانيّة وروحيّة عميقة؛ صداقةٍ أغنت الاثنين وسهّلت أمامهما طريق إصلاح الرهبنة الكرمليّة بفرعيها النسائي والرجالي. تبادلا الخبرات الروحيّة العميقة دون أن ينصهرا في قالب واحد، ودون أن يخسر كلّ منهما خصائصه الشخصيّة المميّزة. فالحقيقة الفلسفيّة المشهورة لا تزال قائمة: «كلّ كائن بشري هو واحد ووحيد».
تريزا الأفيليَّة ويوحنا الصليب شخصيّتان فذّتان، قديرتان، جمعت بينهما محبة المسيح العميقة.
لمحة تاريخيّة
لا بدّ أولاً من لحظِ فارق العمر بين الأثنين:
كانت تريزا قد انتهت من تشييد ديرها الثاني لرهبنتها الجديدة. وذلك في مدينة دِل كمبو 1، عندما اعلنت، في حديث لها مع الأب انطوان دِ إريديا 2 ، عن رغبتها الشديدة في إصلاح الفرع الرجالي للرهبنة الكرمليّة لأنها بحاجة ماسّة إلى رهبان يعتنقون نفس القوانين وذلك لإدارة الراهبات الروحيّة.
منذ زمن بعيد وهي تفكّر مليّا بهذا المشروع وتدرسه من جميع جوانبه. وعندما عبّرت عن هذا المشروع بحديثها مع الأب أنطوان، فوجئت بجوابه: «بامكاني أنا، إذا رأيتِ ذلك مناسبًا، أن أكون أول راهب في الرهبنة، رهبنة الكرمليّين الحفاة، لأول وهلة ظنّت تريزا إن اللياقة الإنسانية أملت على الأب الكرملي المذكور هذا الجواب. لكن تبيّن أن الأب أنطوان كان يتكلم بجدِّيَّة تامة.
بعد أيام قليلة حدّثها الأب المذكور عن كاهن كرملي آخر شاب بإمكانه أن يكون من المعتنقين الأول للرهبنة. هو كاهن جديد مزمع أن يأتي إلى مدينة دِل كمبو لاقامة قدّاسه الإحتفالي الأول. وفعلاً فور وصوله إلى المدينة المذكورة، ذهب حالاً إلى دير الكرمليّات للقاء الأم تريزا. هذا الكاهن الجديد كان قصير القامة، نحيف البنية، ويدعى الأخ يوحنا للقديس متيّا. بعدما ودّعت الأم تريزا الراهب الشاب والكاهن الجديد، دقّت جرس الدير وجمعت راهباتها لتبلغهن الحدث المسرّ: «ساعدنني يا اخواتي لأشكر الله وأمجّده لأن إصلاح الرهبنة الرجالية أصبح وشيكًا ولدي راهب ونصف مستعدان لذلك». فالراهب كان الأب انطوان والنصف هو معلم الكنيسة القديس يوحنا الصليب.
br/>
من هنا ابتدأت رحلة العملاقين في تاريخ الحياة الروحيّة المسيحيّة: تريزا الأفيليَّة ويوحنا الصليب. ابتدأت الرحلة بأن تكون هين الأم، هي المرشدة الروحيّة، هي المديرة والموجّهة. لا عجب في ذلك طالما هي الأكبر سنًا والأعمق خبرة في الروحيّات ومشاكل الرهبان والراهبات.
br/>
لا بدّ لنا من الملاحظة بأنها لم تكن لتبدأ هذه الرحلة الصعبة والشاقة لو لم تلاقِ في يوحنا الصليب العجينة الطيّبة والروحانيّة العميقة التي تمكّنه أن يكون أول الكرمليّين الحفاة والمرشد الروحيّ المناسب لراهبات دير التجسّد، عندما رفضت الراهبات قبول الأم تريزا رئيسة عليهنّ. فهو الذي روّضهنّ وسكب في أنفسهنّ بلسمَ الوداعة والطاعة.
br/>
قريبان ومختلفان في آنٍ معًا
لم تكن القرابة الدمويّة لتجمع بين تريزا ويوحنا، ولا السنون ولا التربية، بل محبّة المسيح، محبّة الله وخلاص النفوس. فبنظرة ثاقبة وموضوعيّة مجرّدة تمكنت تريزا من معرفة يوحنا وشخصيّته معرفة عميقة وحقيقيّة. فتقديرها واحترامها لهذا الراهب الشاب لم يكونا مبنيّين على التقريظ والمجاملة البعيدين عن روح تريزا، ولكن على صفات حقيقيّة تحلّى بها يوحنا.
ففي إحدى رسائلها لأحد محسنيها فرنشيسكو دِ سلسيدو 3 وبصراحتها المعهودة، تعطينا صورة أمينة وجميلة عن يوحنا الصليب:
«ساعد هذا الكاهن فيما ينوي عمله. لا شكّ أنه قصير القامة ونحيف البنية ولكنه كبير في عيني الله. ذهابه ترك فراغًا: فهو مليء بالحكمة وكأنه كُوِّن خصّيصًا لحياتنا الكرمليّة. أظن أن الله اختاره لهذا المشروع. فرغم صغر سنّه قد اكتسب محبة جميع الأخوة واحترامهم لما يقوم به من تضحيات. فأنا جرّبته مرارًا ولم ار يومًا فيه نقيصة. هو شجاع ولكنّه وحده؛ لا بدّ لنا من مساعدته ليتمكّن من تنفيذ تدبير العناية الالهيّة باصلاح رهبنتنا».
لم تكتفِ تريزا بهذا الكلام، ولكنّ تعاطفها مع يوحنا الصليب رافقها حتى نهاية حياتها. الكل يعلم كم كان اهتمامها كبيرًا عندما كان في الحبس، وكم كان فرحها عظيمًا عندما تمكن من الفرار. تقديرها له دفعها لأن تقدّمه كأول رئيس اقليمي للرهبنة الجديدة، ومن ثم اهتمامها لكي يرجع من الأندلس حيث تعذّب كثيرًا.
رغم كلّ هذا التقدير والاحترام من تريزا نحو يوحنا الصليب ورغم الصداقة التي ربطت بينهما، فتبقى أوجه الاختلاف أكثر من أوجه التشابه والصداقة التي كانت تربط بينهما لم تعمّق التشابه ولم تصهر أحدهما في الآخر، لأنّهما كما قلنا شخصيتان فذّتان.
تريزا هي صاحبة الطبع المنفتح وسهولة العلاقة مع الغير. من هنا كثرة اصدقائها والمعجَبين بها. فشغفها بالله وطلبها المتواصل له لم يقفا يومًا حاجزًا في وجه طبيعتها كامرأة وحنانها. فهذا الحنان كان يدفعها دومًا إلى تفهّم الغير والواقع.
يوحنا أيضًا رغم انجذابه بجمال المخلوقات وبصوت الله الداعيه إلى الخلوة العميقة معه، كان يثير محبّة الناس له واهتمامهم به ولكن دون أن يتوقّف عندها، خوفًا من أن يتعلّق بها وتمنعه من الوصول إلى الهدف المنشود: الاتحاد بالله.
عندما التقيا لأول مرة، كانت تريزا قد وصلت إلى كامل نضوجها. فهي كانت تعرف جيدًا ما هي الحياة الرهبانيّة، الحياة المشتركة، قوّة الصلاة وكيف تداوي بها نقائصها وهفواتها. يوحنّا الصليب كان لا يزال في عنفوان شبابه، بنقصه التريّث والصبر والقدرة على التمييز أحيانًا بين الواقع والحلم. تردّد في دعوته الكرمليّة وحاول تغيير الطريق. لقاؤه مع الأم نريزا أعاده إلى نفسه ورّخ دعوته في الكرمل ودفعه لأن يعتبرها أمًّا له. تريزا لم تخجل من أن تعتبره ابنًا لها مع كامل الاحترام والتقدير للكاهن. فمنذ أول لقاء، وحّد الاثنان جهودهما في سبيل قضية واحدة: اصلاح الكرمل بفرعيه النسائي والرجالي.
فقد تمكنا من تخطّي أوجه الخلاف المتعددة في شخصيّتهما واتفقا يشكل كامل في قضية مهمّة جدًا: سبر أغوار السرّ الإلهي. فقد أصبحا شاهدين ومبشِّرين لعظائم الله. لا شك أن خبرة السنين عند تريزا اعطت خطواتها ثبوتًا أكثر وعمقًا.
فقد تذوّقا معًا حلاوتة الله، عذوبة الثالوث الأقدس الساكن في نفسيهما.
فقد لوحظا مرّة في دير التجسّد وهما منخطفان بالورح بينما كانا يتحادثان عن الله.
ونحن نعلم أنهما عبّرا عن رغبتهما في الموت كوسيلة وحيدة للوصول إلى الله.
من هنا كلامها: «أو الموت أو العذاب» وكلامه: أن أُعَذَّب واحتقر في سبيلك».
فمن يكتشف غنى الله وكرمه اللامتناهيين، ومن يختبر محبّته المجانيّة، لا يمكنه إلاَّ أن ينسجم مع الذي عنده نفس الشعور والأهداف والخبرة. الشعور الواحد والهدف الواحد والخبرة الواحدة توحّد الطريق والأنظار. فهي تخلق روابط عميقة أقوى من روابط الدم وتشابه الأطباع.
كلّ هذا لم يمنع تريزا من انتقاد يوحنا أحيانًا.
انتقدت نظرته إلى الأمور وتفسيره لبعض القضايا الروحيّة:
تفسيره لما سمعت من الله وقالته لأخيها لورينسو: « ابحثي عن ذاتك في 4ّ ».
فبنظرها تفسيره لهذه الجملة غنيّ بالتعاليم الروحيّة السامية ولكنه لا يطابق الواقع. فقد أعطى تفسيرًا روحيًا وصوفيًا بحتًا: الاتحاد بالله بالموت.
فهي تتساءل: المجدليّة، السامريّة، المرأة الكنعانيّة بحثن عن الله وهنّ لا يزلن في بداية الطريق، قبل رجوعهما إلى الله. فهي تنبهنا: أيانا أن نرد كلّ شيء إلى الروحيّات السامية. علينا أن نكون أكثر واقعيّة.
تريزا الأفيليَّة ويوحنا الصليب يشكِّلان حلقة في سلسلة صداقات القدّيسين والقدّيسات:
حبّذا لو الصداقات الإنسانيّة تكون على مثال هذه الصداقات المبنيّة على محبّة المسيح وخلاص البشر، وليس على الظواهر والمصالح الزائلة.